شعراء في غياهب السجون

> مصطفى قاسم عباس

> وأما ابنُ زيدون فإنه عندما كان في نكبته، وأُودِع في السجن، أتى بصوَرٍ بديعة، فهو لا يرى في نفسه عندما سُجن سوى قمرٍ قد أصابه الخسوفُ, أو شمسٍ قد ألمَّ بها الكسوفُ، وهو نجم إلا أنه في الأرض لا في السماء، يقول:
هل الرّياحُ بنجمِ الأرضِ عاصفةٌ
أمِ الكسوفُ لغَيرِ الشمسِ والقمرِ؟
إن طال في السِّجنِ إيداعيْ فلا عجبٌ
قدْ يوْدعُ الجفن حدّ الصارمِ الذّكَرِ
وإذا كان ابنُ زيدون قد صوَّر نفسه في سجنه بدرًا مخسوفًا، وسيفًا صارمًا مغمَدًا، فإن بعض ولد نهيك بن أساف الأنصاري قد جعل من الحكم بن المطلب المخزوميَّ شيئًا آخرَ، فعندما حُبس رأى أن الجود والكرم قد حُبسا، وأن المعروف قد أصبح نزيلَ السجن، ورأى أنّ هذا البحر يفيض رغم القيود حتى يكاد يغرق زائريه، قال:
خليليَّ إنّ الجودَ في السجنِ فابكِيا
على الجُودِ إذْ شُدَّتْ عليهِ مرافِقُهْ
تَرى عارضَ المعروفِ في كلِّ ليلةٍِ
وكلِّ ضُحًى يستنُ في السجنِ بارِقُهْ
إذا صاحَ كبلاه طفا فيضُ بحرِهِ
لزوَّاره حتى تُرامَ غرائقُهْ
وسُجن مروانُ بنُ عبد الرحمن الملقبُ بالطليق، وكان عمرُه ست عشرة سنة، وطال سجنه إذ مكث في السجن ستَّ عشرة سنة أخرى، فما كان منه إلاّ أن وصف السجن بقوله:
في منزل كالليلِ أسودَ فاحمٍ
داجي النواحي، مظلمِ الأشباجِ
يسودّ والزهراءُ تشرقُ حولَهُ
كالحبرِ أُودعَ في دَوَاةِ العاجِ
وكثيرًا ما يُسجن إنسان لا يقرض الشعر، فيهيئ الله له من الشعراء من يواسيه, ويسليه في سجنه، فالبحتريُ عندما سُجن محمد بنُ يوسفَ ذكره بنبي الله يوسفَ عليه السلام، وأن صبره جعل منه ملكًا، كما ذكره أن الذهب لا يصفو إلا بالسبك، والدنيا متقلبة، والأيام دول:
وما هذه الأيامُ إلاّ مَنازلٌ
فمِن مَنْزِلٍ رحْبٍ إلى منزِلٍ ضَنْكِ
وقدْ دهَمتْكَ الحادثاتُ وإنّما
صفا الذّهبُ الإبرِيزُ قَبْلَكَ بالسّبْكِ
أمَا في نبي الله يُوسفَ أُسْوَةٌ
لمثِلكَ محبوسٌ عنِ الظُلْمِ والإفْكِ
أقامَ جميلَ الصّبرِ في السِّجن بُرهةً
فآلَ بهِ الصّبرُ الجميلُ إلى المُلْكِ
ونحن عندما ننتقل إلى شعراء العصر الحديث فإننا قد نراهم، أبدعوا إبداعًا رائعًا، وهم في سجونهم, وكتبوا روائع شعريةً ليس لها نظير، وممن كتب وأبدع في هذا المجال الشاعر هاشم الرفاعي (رسالةٌ في ليلة التنفيذ) التي يخاطب فيها أباه، ويصوِّر السجن تصويرًا عجيبًا، بليله الحالك، وهدوئه المخيف، وصمته الذي يقطعه رنينُ السلاسل:
أبتاهُ، ماذا قد يخطّ بَناني؟
والحبلُ والجلاّدُ منتظرانِ
هذا الكتابُ إليكَ مِن زنزانةٍ
مَقرُورةٍ صخريّةِ الجُدرانِ
وأختم قصائد غياهب السجون بأبياتٍ عن الخروج منها إلى نور الحرّية .. في كلماتٍ للشاعر الإسلامي محمد محمود الزبيري - يرحمه الله:
خَرَجْنا مِن السِّجْن شُمَّ الأُنُوفِ
كما تخرُجُ الأُسْدُ مِن غابِها
نَمُرُ على شَفَرَاتِ السّيوفِ
ونأتِي المنيّةَ مِن بابِها
ونأْبَى الحياةَ إذَا دُنِّسَتْ
بِعَسْفِ الطُغاةِ وإرهابِها
المحرر الأدبي
وللسجين في سجنه مشاعر مرهفة فكلما هبت رياحٌ من ناحية بلاده يذوب حنينًا، وكلما لاح له خيالُ ركبٍ أرسل وجهَهُ شطرَ بلده .. وقد كتب أسير الحرية أحمد عمر المرقشي مقالات أدبية وسياسية خاطب بها القلوب قبل العقول شارحًا وواصفًا ظلم الظالمين ومما كتبه "من كان ظالم فليتذكر سلطه الله عليه"، وقال في موضع يبين حاله "أنا خلف قضبان الظلام والطغيان ظلمًا وعدوانًا بسبب الظالمين المتنفذين دجالي الوحدة والديمقراطية والحرية والمواطنة المتساوية في هذا النظام الذي أعانهم على ذلك، بل حماهم" .. وقال أيضًا مواسيًا نفسه بعزم الشجعان " قد أسقط، ولكنني ما خلقت كي انحني لغير خالقي، مهما كانت الظروف أو الأسباب، مـادام هناك في السـماء من سيحميني، فليس هنا في الأرض من سيبكيني".
فكما هيأ الله البحتري لمحمد بنُ يوسفَ يواسيه, ويسليه في سجنه، فقد واسى شعراء كثر أسير الحرية منها الفصيح والشعبي، وقال أبو شيماء:
المرقشي ثائر يعلنها علن
المرقشي ضحى بروحه والبدن
المرقشي صامد والله يا وطن
المرقشي ضحى للحرف والوطن
المرقشي صامد على طول الزمن
المرقشي صامد ويتحدى المحن
**مصطفى قاسم عباس**

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى