بعد رحيل فيصل علوي (1 ــ 4) هل غدا الخطر يحدق بمصير الأغنية اللحجية .. إلى أي مدى؟

> أ.م.د/ علي سالمين

> يتعذّر يوم بغير أغنية لحجية، و يتعذّر خميس بغير أغنية لحجية.. وكذلك على الإذاعة والشاشات المحلية.. و العرس لا يكون عرساً بغير أغنية لحجية.
فالعرس يعني أغنية لحجية، وكذا الخميس والمخدرة والمقيل والرحلة والسفر الطويل براً، والإذاعة والتلفزيون جميعها وغيرها تعني أغنية لحجية.
فالأغنية اللحجية ضرورة يتعذر غيابها أو الامتناع عنها.. تكاد تكون ملح كل طرب محلي.. مدرسة يحرص على ارتيادها كل فنان مغني صاعد، ينشد الحضور في عالم الغناء.. إنها معلم يتوجب التتلمذ على يده، وعلى حضور فصوله، عند البدء في الغناء وقبله.. روضة اسمها الحسيني لابد من زيارتها، والتلذذ بألوانها.. كلماتها .. ألحانها.. إيقاعاتها، لها تميل الرؤوس، تصفّق الأيدي، تنشرح الروح والصدور وتسعد طرباً.. تهتز الأجسام، ترقص الأرجل والأقدام شرحاً.. تتعالى ضحكات السعادة والبسط والانبساط والاستمتاع والانسجام والاندماج بتذوّق.. إنها الأغنية اللحجية.
**الأغنية اللحجية.. كيان و طقوس**
الأغنية اللحجية كيان فني غنائي مستقل، بلده لحج، شمال عدن، استفادت من إيقاعات كل فنون الغناء، أمعنت فيها بتذوق، فتذوقتها، ثم وظفتها توظيفاً لحجياً، فأظهرتها في ثوب وكيان لحجي خالص.
ولكي تؤكد استقلالها وتميزها، جعلت الأغنية اللحجية لنفسها طقوسا، وجعلت لهذه الطقوس عناصر أشبه بالقرابين.. تلزم حضورها وتوافرها، وتشترط أن تكون العناصر من لحج، أي ذات أصل لحجي.. ولهذه العناصر حضور حسي كامل، بما تتيح للحواس الخمس الاشتراك في أداء هذه الطقوس، وليس السمع، كما في كثير من الألوان الغنائية غير اللحجية.. فمن بين عناصر طقوسها: “فل، كاذي، مشموم، عطر، بخور، طبل، مرواس”.. لا يمكن أن يطلق على الأغنية “لحجية” في غياب أي من عناصر طقوسها، ما دامت متناولة.. وعلى ذلك فإن أهل لحج يحرصون على حضور عناصر طقوس أغنيتهم، وهم داخل لحج، وهم خارج لحج، كما في عدن وما جاورها.. إنه تأكيد هويتها اللحجية، التزامهم تمييز لهويتهم وثقافتهم وتراثهم وذوقهم الفني الاجتماعي.. لقد أقنعوا غير اللحوج بها طقوساً، فاقتنعوا، حتى صار “غير اللحوج”، حين يعدون لبرنامج خاص بهم في الأغنية اللحجية (عرس، مخدرة، مقيل... إلخ)، بالمثل، يحرصون قبل الشروع في تقديم برنامجهم على توفير متطلبات الأغنية اللحجية، وذلك لإيجاد الجو اللحجي، امتثال والتزام لطقوسها.
**الأغنية اللحجية.. والغيرة اللحجية**

لا يقتصر الأمر، عند أهل لحج، على التزام طقوس أغنيتهم اللحجية، هناك حرص على وجوب إجادة أداء الأغنية بطابعها اللحجي، إذا ما أراد مغني غير لحجي أن يغنيها، على تقديمها بالأسلوب اللحجي (لحن، إيقاع، طريقة لفظ الكلمة... إلخ)، لتأكيد هويتها ومصدرها وأصلها، يستنكر اللحجي (جمهور، فنان، شاعر، كاتب، ناقد، موثق) على المغني غير اللحجي حين يتغنى بأغنية لحجية، ثم لا يمنحها خصائصها وخصوصيتها الفنية الوطنية اللحجية، أو حين يتعرض للحنها اللحجي الأصلي المعروف (الذي وضعه سلفاً مغن أو ملحن أو شاعرها اللحجي، مثل القمندان الذي يضع لحن أشعاره أو أغانيه) بأن يغير لحنها الأصلي، فيضع لها لحنا مغايرا من تأليفه أو تأليف غيره.. هناك استنكار يظهره اللحوج بمختلف فئاتهم العامة والخاصة، لديهم غيرة على هوية أغنيتهم كلمةً ولحناً.. لا يمانعون من أن يتغنى بها، مادام يلتزم ما ذكر، بل قد يصفقون له ويشيدون به إذا وفق وأحسن الأداء.
ما يزال اللحوج غير راضين على أداء المغني محمد مرشد ناجي لقصيدة القمندان الملحمية “صادت عيون المها قلبي” بذلك اللحن المغاير الذي وضعه المرشدي للأغنية.. فاللحن الذي وضعه المرشدي وأدائه لها بتلك اللهجة، جرّد القصيدة من لحنها الأصلي، لحن القمندان (شاعرها وملحنها) الذي يجده اللحوج يجسد هويتها، بينما لحن المرشدي يبعدها كل البعد عن لحج.. كأن إيقاع المرشدي ينفيها عن مجتمعها وثقافتها ولونها، يكسبها غير هويتها، ينسبها إلى هوية أخرى، أو هكذا.
في لقاء له ضمن برنامج حول الأغنية اللحجية في قناة (عدن) الفضائية قبل عام ونيف، تقريباً لم يخف الدكتور هشام السقاف وآخرون معه (ضيوف البرنامج) استياء لحج من تعرض المرشدي لملحمة القمندان فيلحنها بذلك اللحن المخالف.. و لعل الفنان فيصل علوي (رحمه الله) عندما قام (في مصر) بإعادة تسجيل وغناء ملحمة القمندان “صادت عيون المها قلبي” بلحنها ولفظها القمنداني اللحجي، مصحوب بالموسيقى الحديثة، كان نوعاً من التصحيح، محاولة إعادة توثيق للشكل اللحجي الأصلي، أو رد كيّس، يعبر عن ذلك الاستياء.. المستمع للأغنية لحنا وأداء سيلمس غياب النكهة اللحجية عند المرشدي، بينما لحجيتها عند فيصل الذي قدّمها بلحنها، القمنداني الأصلي.
في الأغنية اللحجية، كتب كثيراً و تحدث كثيراً الدكتور هشام السقاف (أستاذ التاريخ، كلية التربية عدن - جامعة عدن) من وهط لحج.. ومن وهط لحج أيضاً هناك كتابات وقراءات للدكتور جمال السيد (أستاذ الإنجليزي، كلية التربية صبر - جامعة عدن) في الأغنية اللحجية، نشرها في مجلة “الحكمة” و “الثقافة الجديدة” في سبعينات وثمانينات القرن 20 الماضي.. من كتابات السيد في هذه المجلات ما استفاد منها واعتمد عليها الدكتور القاسمي صاحب الشارقة في مؤلفاته في الأغنية اللحجية التي أصدرها في الثمانينيات أو التسعينات.
إلى جانب الدور الذي كان يلعبه الإعلامي الفني الكبير عبدالقادر خضر - رحمه الله - من خلال برامجه الفنية في تلفزيون عدن، ولعل من نتاجات برنامجه، الفنان الشاب عبود خواجه، في أول ظهور له في صباه، صيف عام 1984م، في برنامج(سمر).. البرنامج كان مخصصا للفنان فيصل علوي - رحمه الله - بمناسبة عودته للغناء في تلفزيون وإذاعة عدن، بعد فترة من التوقف الإلزامي، نتيجة حظر من النظام السياسي قبل ذاك لأسباب سياسية، كما كان يردد وقتذاك.. وكان من ضيوف البرنامج ليلتها الشاعر أحمد سيف ثابت - رحمه الله.
إلى جانب إسهامات السقاف والسيد وخضر هناك كتابات وأحاديث وبرامج كثيرة في الأغنية اللحجية، ما تشبع حاجة القارئ والمهتم، وما تعفي هذا القلم، في هذا المقام، من الخوض والفيض في تاريخ وتطور وأنواع وجمالية الأغنية اللحجية.
* كلية التربية عدن - جامعة عدن

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى