الفتاة الفــاتنة

> عبدالرحمن محمد الأحمدي

> أخبرتني البارحة أنّ لديك محاضرات مهمّة في الغد! لِمَ لم تذهب إلى الجامعة هذا الصباح؟.
قالها أخي بصوته الهادئ، غير أنّي انتفضتُ فزعاً كما لو أنّه صبّ على وجهي دلواً من الماءِ في هذا الشتاء الصنعاني البارد.
غادرَ أخي الغرفة بعد أن جلجلَ بضحكةٍ أجهزتْ على ما تبقى من خمولٍ في جسدي المنتفض.
تناولتُ جوالي الساعة 9:27 لا جدوى من الذهاب الآن إلى الجامعةِ أو إليكِ في الحقيقة.
أسندتُ رأسي إلى الحائط البارد، محاولاً استعادة توزاني، بدأت صورتُكِ تستعيدُ تموضعها في مخيلتي، صورتكِ التي كانت ضيفة أحلامي الليلة.
اجتاحني شعورٌ لذيذ، تساءلتُ ما المؤلم في خسارتي للمجيء إليكِ إذا كنتِ أنتِ قد جئتِ إليّ واقتسمنا معاً - على جناح الحلم - ذاتَ الوسادة؟! ليس مهماً إذا كان حقيقةً أو حلماً، فأنا مكتفٍ بهذا الشعور الذي يملؤني الآن، بين لحظةٍ و أخرى كنتُ أنظرُ إلى هاتفي بعتبٍ، هل كان متواطئاً معكِ في تعذيبي إذ أنّه لم يقم بواجبه في إيقاظي للمجيء لرؤيتكِ، ولكنّني سرعان ما أعيد النظرَ إليه بكثيرٍ من الامتنانِ، ربما لم يقمْ بتنبيهي هذا الصباح لأنّه لم يشأ أن يأخذني من جواركِ في الحلمِ، هل كان من الحصافةِ أن ينتزعني وأنا أجلسُ على بُعد نفَسٍ منكِ في الحلم ليذهب بي إلى الواقعِ حيثُ لا أستطيعُ النظر إليكِ إلاسرقةً ومن مسافاتٍ طويلةْ.
وأنا غارقٌ في هذا البانيو الدافئ من الأحاسيسِ، كنتُ أتذكرُ مشهدَكِ وأنتِ تضحكين في الحلم إثر نكتةٍ قلتُها لا أتذكرُ الأن منها شيئاً،
أحاولُ أن أتفحّصَ ملامحَ صوتكِ، أحاولُ ذلك دون جدوى، لم أستطعْ أن أظفرَ بصوتكِ.
تذكّرتُ حينها حقيقةً مهينة، إنني لا أعرفُ صوتكِ حتى اللحظة
معقول!.
كانَت هذه الحقيقة صادمةٌ لي وكأني أكتشفها لأول مرةٍ.
لا أصدِّق!، تُحدِثينَ كلّ هذه الضوضاء في حياتي وكلّ هذا الضجيج داخلي من دونِ أن أستطيع حتى اكتشافِ صوتكِ!.
شعرتُ بالهزيمةِ، بدوتُ مثلَ فارسٍ يصارعُ ظلاله، أمضيتُ اليومَ منكسراً وحزيناً من وضعيَ البائس، نمتُ وأنا ذلك الفارسُ الذي يصارعُ ضلالَه، أحاذرُ حضورَ طيفكِ الكاذبِ، أُحاذر أن أمتلئ بكِ ذلك الامتلاء الوهمي الذي ينهار فجأةً لأبدأ عمليةَ امتلاءٍ عكسي حاد، امتلاءٌ بالألم والخيبةِ والإختناق، حتى غدوتُ وكأنّني آنية اختبار يُفرغُ فيها جمالك شحناته المتعاكسة ليكتشف مدى سطوته.
استيقظتُ صباح اليومِ التالي، أعددتُ حقيبةَ الكتُبِ، وارتديتُ ثياب الشتاء، نظرتُ لنفسي في المرآةِ، كانت عيناي تطفحانِ بالانتقام والسخط يجعلهما أرق الليلة الماضية أكثر توحشاً.
للحظةٍ تخيلتُني صياداً، وحقيبةَ الكتبِ قوساً وجيباً مليئاً بالرماح، سأصطاد صوتها هذا النهار"قلتُ في نفسي!
تحولتْ الشوارعُ في عينيَ المحاربتين إلى ساحةٍ واحدةٍ تفيض بالجياد.
ترجّلتُ من الباصِ الذي كان حصاناً طوال المشوار ودلفتُ مجتازاً بوابة الجامعة، ما إن تدخل باحة جامعة صنعاء القديمةِ حتى تختفي داخلَ غابةٍ سوداء من الفتياتِ الفاتناتِ.
لطالما حدثتُ زميلي عن مخاوفي من هذا العبور الخط، كنتُ أقول له إنّني حين أمرقُ في هذا الليل الداكنِ أشعرُ أنّي لن آخذ نفسي الأول في قاعة الدراسةِ إلا بعد أن أكون قد امتسختُ وآحدةً منهن أو تحولتُ إلى غرابٍ تحت ضغط السواد، وكان يضحكُ كثيراً، ربما كان يظنّني أمزح، بدأتُ رحلةِ العبور الخطرِ لهذا اليوم، كنتُ أظهر وأختفي كهلالٍ في سماءٍ غائمة.
عينايَ المقاتلتان وقلبي المهزوم جعلوني أشعرُ وأنا أمضي كما لو أنّي أخترقُ صفوفَ الأعداء.
أجل يا كاملةَ الجمالِ السفّاح، لقد حولتِ العالم في عينيّ الساهرتين إلى ساحة واحدةٍ للحرب، إلى لونينِ وحيدينِ، إلى عدوٍ وصديق، وأعدتني إلى بدائية القرون الأولى.
خطواتٍ وأدخل المجال المغناطيسي لعينيكِ، خطواتٌ ويبدأ الدُوار والتوهان.
التفتُ يمنةً ويسرةً أفتّش عنكِ، وكما العادة ها أنتِ تقفينِ في ذاتِ الزاويةِ محروسةً بأجسادِ زميلاتكِ وبنظراتِ زملائي الخائبين.
اقتربتُ قليلاً، أحدثُ نفسي سأصطادُ صوتها، سأعود به إلى غرفتي الحزينة، وستحتفظ به أُذناي إلى الأبد.
كلّ ما سأفعلهُ الأن، وهو أنني سألقي بتحيةٍ لهذا الجمع السوراني ، وانتظر الرد ومن ثم سألتقط صوتها من بين جميع الأصوات، هكذا فكرتُ، وأنا اقترب شيئاً فشيئاً، صوبتُ عيني اتجاه الحلقة التي تُحيط بك، وبدأت شفتاي ترتعشان، وتهم بالحديث وقبل أن أنطق، ارتفعت حواجبكِ قليلاً، ثم عاجلتني بنظرة خاطفةٍ، فتسمرت قدماي، وتجمدت شفتاي، ونهارت الجيوش التي كانت تُحيطنا، اختفت الجياد، وخذلتني سهامي، وتلاشت الغيوم، وضلّتا عينكِ نجمتان، وحيدتان في سماء المكان، وجسدكِ الحصان الأخير في الميدان اللانهائي.
شعرتُ بقدماي تتحركان كما لو كانت قد انعزلتا عني،
وخذلتني هي الأخرى، لأجد نفسي بعد ثوانٍ خارج المساحة التي كان يمكن لصوتها أن يصلني خلالها.
تنفستُ بعمق كمالوكنتُ خرجتُ حالاٍ من دوامه بحرٍ فاتكة، مالذي كنتُ سأفعله بتلك الفتاة الفاتنّة ...رباه!
فجأة وكأنني استيقظت على حافةٍ كنتُ على وشك السقوط منها وأنا أمشي نائما.
ألايكفيكَ انك أصبت بلعنة عينيها اللتين تغتالانك كل الحظة؟ً!
ألا تكفيك لعنةجسدها التي تذبحك كل مساء، حتى تلهث هكذا فقط لتعود بصوتها الذي لن يكون هو الآخر سوى صوت يجلدكَ كل ساعة؟
ماذا دهاك؟؟
هكذا غرقتُ في هذه الأسئلة المفزعة في حالةٍ من الذهول الباردة وتهز كفي.
إلى الخميرة يا صديقي
**عبدالرحمن محمد الأحمدي **

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى