أمة لا تستحق الحياة !

> الشاعر / أحمد مطر

> نحن أمة لا تستحق الحياة.. تأتي الانقلابات لها بقادة من رحم المجهول، فتخرج لتهتف وتصفق، وتذهب الانقلابات المضادة بالمجهولين، فتخرج لتهتف وتصفق للمجهولين الجدد، وهكذا دواليك، حتى تضجر البنادق وتسأم الدبابات وتمل البلاغات الأولى، وتبقى الأمة النشطة وحدها صامدة ضد الملل والضجر والسأم، ولفرط إخلاصها للهتاف العتيد لا تنتبه للموت وهو يلملم رفاتها المعتقة، فتموت وهي تهتف يعيش.. يعيش!.
نحن أمة لا تستحق الحياة؛ لأنها تحلف بالطلاق على طغاتها بألا يموتوا وألا يمرضوا وألا ينهزموا لكي لا تقع الطامة عليها بالاحتلال الأجنبي. هي أمة منزلية.. تنتشي لمن يهتك عرضها إذا كان منها، وتتفجر احتراما وتوقيرا لمن يسرق لقمتها الوحيدة من بين أسنانها إذا كان من العائلة، وتفرح لمن يحبسها في صندوق زبالة ويساقيها العصي في مؤخراتها، بشرط أن يكون واحدا من أبنائها البررة. هي أمة ترى الاغتصاب الوطني عفة، والسرقة الوطنية مجرد اقتباس، والتعذيب الوطني شأن داخلي، من العيب أن تشكو منه للغرباء، كله عسل إلا الاحتلال الأجنبي. مليون طاغية ولا محتل غريب واحد.
وتنسى هذه الأمة الممحونة المفلفلة أن الطغيان الداخلي كان دائما البوابة العريضة التي يدخل منها المحتل الخارجي، وتنسى هذه الأمة المهتوكة العرض ذاتيا أن معظم الاحتلالات الأجنبية كانت رحمة من الله على عباده مقابل نقمة الاستقلال الوطني المستبد، لأن ذلك الاحتلال ينشغل عن النفوس بابتلاع الخيرات، فيما ينهض هذا الاستقلال على ابتلاع الأنفاس والنفوس والخيرات معا. وتنسى هذه الأمة أن من يمد نحره لكي يذبح بسيف أخيه ليس من حقه أن يتأوه من سطوة سيف الغريب، إذ لا فرق بين السيوف في اللغة والعمل، ومن يستنكر الذبح العدواني ويستمرىء الذبح الأخوي هو ليس فيلسوفا ولا حكيما ولا وطنيا، بل هو كائن ساقط تماما من سجل الحياء والحياة.
نحن أمة لا تستحق الحياة؛ لأنها تباهي بفضلها على العالم، وهي قاعدة تشحذ الصدّقات على أرصفته.
أسلافها الذين تفضّلوا ماتوا وماتت مآثرهم، وهي لا تزال منذ ذلك الوقت تأكل وتشرب وتلبس وترى وتسمع وتتداوى وتسافر بفضل كرم الأجنبي الذي استفاد من فضل أسلافها ونمّاه وطوّره وجَمّل به حياته.
نحن أمّة لا تستحق الحياة؛ لأنها تغرف من الغرب كل سيئاته، ولا تغلط مرة واحدة بأخذ شيء مفيد منه، وما أكثر الأشياء المفيدة لديه. ما إن تظهر صرعة عري أو شذوذ أو تهتك أو عبادة شيطان في الغرب حتى تجد ترجمتها الفورية لدينا، وبأسوأ وأبشع مما لدى الغرب نفسه، في الوقت الذي ظهر برنامج (بوب آيدل) في بريطانيا طلع لدينا (سوبر ستار) وزدنا عليه القبعة الاكاديمية فأصبح لدينا (ستار أكاديمي). حسنا، إنّها عولمة، ولا بُدّ لنا أن نلحق بالرّكب (ولو بكشف ما فوق الرّكب)، لكن ألم يسمع أحد عن البرنامج الكبير ذي الضجّة العارمة الذي نظمته محطة BBC تحت عنوان The Big Read أو (القراءة الكبرى)؟. لقد كان القوم يتنططون ويتراقصون على جانب، لكنهم في الوقت ذاته كانوا منهمكين في شأن أدمغتهم على الجانب الآخر، وكانوا يلهثون بنفس الطريقة في سباق ترشيح الكتب التي طالعوها وأثرت فيهم على مدى عدة أسابيع، تم اختيار آلاف العناوين وتم خضوعها للتصفيات ليتفوق منها مائة عنوان وليفوز من بينها عنوان واحد بكونه الكتاب الأكثر قراءة.
على مدى عدة أسابيع، والمكتبات التي بعدد محلات أشرطة الكاسيت لدينا تعرض في واجهاتها الكتب المرشحة، وتجري حسما على أثمانها الرخيصة أصلا، لتكون في متناول القراء، على مدى عدة أسابيع والدنيا قائمة وقاعدة في بريطانيا، وموضوع قيامها وقعودها هو الكتاب ولا شيء غيره! ألم تسمع عروبتنا بذلك؟، بل سمعت، لأن الضجيج كان أقوى من صوت المتنبي الذي أسمعت كلماته من به صمم،
لكن المشكلة هي أننا أمة بدأ الوحي لديها بكلمة (اقرأ) وكأنه يلهب ظهرها بالسوط آمرا إياها بأن تكون أمة أمية حتى النخاع، إن أمّة (اقرأ) التي لا تقرأ.. لا تستحق الحياة. إن أمة نسبة الأمية فيها 43 بالمائة، بعد عشرات الأعوام من النفط والاستقلال الوطني والقومية العربية والشرعية الثورية والصحوة الإظلامية هي أمّة لا تستحق الحياة.
واحد من أبطالنا الميامين الذين أعلنوا مسؤوليتهم عن نسف مئات الأبرياء، في قطار مدريد، أعلن بعد حمد الله والثناء عليه، عن وقف العمليات حتى حين في بلاد الأندلس. أكانت ملك الذين خلّفوكم؟!. لماذا لا يصر الصهاينة المجرمون على تسمية أرض فلسطين بإسرائيل، إذ كنا لا نزال حتى بعد خيبتنا التي طولها سبعمائة سنة، نّدعي ملكية أرض ليست لنا، احتللناها ظلما وعدوانا باسم الإسلام البريء الذي اغتلناه، ومضينا نوقع ببصمة إبهامة كلّ فعل قبيح لا تصدر فتواه إلا من شيطان.
على مدى سبعة قرون لم نترك في أرض الناس تلك علما ولا عدالة ولا لغة ولا دينا، بل انهمكنا في امتصاص خيراتها قطرة قطرة، واستعباد أبنائها واستحياء نسائها، وتبادلهن إماءً بيعا وإهداءً للتسرية عن أمير المؤمنين المثقل بالجهاد الليلي الوثير، والمتحلي من الدين كله بمجرد ختم على رقعة يلعلع دون حاجة أو مناسبة: لا غالب إلا الله. وقد صدق الله وعده، فكنسنا بكل قبائحنا وفجورنا وأميتنا عن وجه تلك الأرض، فثابت إلى نفسها وكأننا لم نكن قد أثقلناها بوجودنا لسبعة قرون!.
البطل الميمون الذي أجزم أنّه لم يقرأ في حياته أكثر من ثلاثة كتب تكفيرية، يرفع يده متفضّلاً عن بلاد الأندلس!. وهي بلاد ستكون متفضّلة لو بصقت في وجهه احتقاراً، لأنّ بصقتها نفحة حياة لا يستحقها ميّت مثله، يمشي ليوزّع الموت بين الأحياء.
تقول تقارير صندوق الأمم المتحدة للتنمية، وتزمر لها مؤيدةً تقارير الصندوق العربي للتنمية إن ما ترجمته إسبانيا من الكتب خلال عام واحد يعادل عدد الكتب التي ترجمتها الدول العربية كلها في ألف عام
هذا في إسبانيا وحدها.. فماذا إذن عن أمريكا وبريطانيا وفرنسا.. ودول الغرب الأخرى، ومع ذلك فإننا نخرج ألسنتنا بكل وقاحة في وجوه هؤلاء الكفّار، ونحرمهم من بركة رضانا، ونتركهم كاليتامى في فسطاطهم البائس، مستفيدين لوحدنا بنعمة فسطاط الإيمان.
نحن الجثث المكّدسة التي لم تجد محسنا يكرمها بالدفن، تتباهى على الأحياء بعفنها، وتعتدي على رب السماوات والأرض بحيازة رحمته بأيديها، لتوزّعها بمعرفتها وبمزاجها على من تشاء وتحرم منها من تشاء، من إذن للموتى بامتلاك مقادير الحياة؟!.
* من (أدبيات أحمد مطر غير الشعرية) بتصرف

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى