عندليب الجزيرة ..في الذكرى الخامسة لرحيل الفنان فيصل علوي

> عدن «الأيام»

>
كتب/ د. سعيد جيرع
كتب/ د. سعيد جيرع

في التاسعة من صباح يوم الأحد 7 فبراير 2010م توقف نبض قلب فيصل عن عمر يقارب 60 عاماً (1951 - 2010م)، ترعرع فيصل على الماء والخضرة في السهول، فكان عود شبابه يورق عند ضفة الوادي الأعظم، وتخفق أوراقه على رابية أو على حافات وادي تبن، فيسابق ذلك الصبي موجة الصبح حين تتدفق على مباسط قرية الشقعة (تبعد عن الحوطة 15 كم من الشمال).
أضمن كلمتي هذه الانعطافة الطيبة وأنا مدرك تمام الإدراك أنني في هذا الوقت مهما كتبت لا أستطيع أن أعطي حقه، ولكن ما جاش من خواطر وطويات النفس وحلاوة التذكر، هنا وهناك عندليب لحج والجزيرة العربية فيصل علوي.
أتذكر في أحد الحوارات سألته ـ رحمه الله ـ عن دور الفن في الحياة؟ صمت قليلا ثم أجاب: لا حاجة للاهتمام بالفن ولا أهمية عندنا له، لا أهمية للمهم.. هذا ما جعل الفن معدوم الوجود إلا ما ندر.. يسألونك عن الفن والثقافة وغيرهما فتحتار لا تجد جواباً مقنعا ومن يقرر ويوجد معنى للثقافة والفن والعلوم، والكل في ملهى عنهم.. وغرباء في بلد يلهث وراء الربح وتكريس الأوراق المالية البالية.. هكذا قالها حينما توجهنا ناحية منزله الواقع جنوب شرق الحوطة المحروسة.
كان حزينا أثناء رحلتنا وقال: “بالأمس كانت أراضينا خضراء واليوم جرباء، وأيضا الله سبحانه وتعالى أنعم علينا بطبيعة جميلة كساحل أبين والإخوة يحرمونا منها”.
واصلنا تحركنا حتى وصلنا دار “الأيام” بكريتر لإحياء حفلة غنائية بمناسبة عودة الأخ محمد هشام نجل المغفور له بإذن الله تعالى هشام باشراحيل من بريطانيا، بعد أن أتم دراسته العليا.. نزل (أبو باسل) من السيارة متأبطاً آلة العود التي لم تفارقه قط في حياته، وكان معه الأستاذ ضارب الإيقاع الأول في اليمن الذي لم يعط حقه من التكريم ليومنا هذا الفنان فضل ميزر.
وكان في استقبالنا في منتدى “الأيام” المغفور له بإذن الله رئيس التحرير هشام باشراحيل وأخوه مدير التحرير السابق ورئيس التحرير الحالي الأستاذ تمام باشراحيل، وبحضور كل رواد منتدى “الأيام”.
بعد استراحة قصيرة تناول فيصل (العود) واستهل الاحتفالية بعدة أغان قمندانية منها: سلام مني عليكم ياحبايب، في الحسيني جناين والرمادة زراعة، ومنها: طلبنا الله لي يغفر ويرحم، إذا رأيت شمسان في عدن، والأغنيتان كانتا للقمندان، ثم يا ضارب الرمل لصالح الفقيه، ثم أشتكي من طول هجره لسيف صلوح، وهناك أغان أخرى لا يتسع المجال لذكرها.
أستطيع القول إنها كانت ليلة من أجمل الليالي الباشراحيلية كما أطلق عليها فيصل علوي.. وبعد تقديم الشكر والامتنان للفنان فيصل علوي ومعه فضل ميزر، عدنا من كرتير متوجهين إلى الحوطة وهذه المرة بمعية صديقي د. هشام السقاف تحدثنا طويلا أثناء الطريق حتى وصلنا إلى منزله في الحوطة وودعناه شاكرين له، آملين لقاء آخر.
في إحدى الزيارات له في داره للاطمئنان على صحته دار حوار طويل بيننا وسألته حول ما يدور في هذه الأيام، وكعادته صمت قليلا ومن ثم بدأ الحديث من تلقاء نفسه وقال: “أصبح الجاهل يجهل حتى أصبح الجهل علما ومسلكا في الحياة، ماذا يهمنا نحن مواليد هذا العالم مواليد هذه الأرض الشاسعة التي راحت منذ زمن من بين أصابعنا ومن اهتمامنا بسبب الفوضى وجهلنا واتكالنا على الآخرين بحثنا عن السماء والأرض والنتيجة لم نغزو كالآخرين السماء، وراحت الأرض تضيع من بين أرجلنا؟ صمت قليلا وواصل حديثه أنا حزين حتى الموت قالها وكان صادقا للمرة الأولى أقولها مرارا يوميا ولا أحد يصدقني القول، الكل كذابون إلا نادراً.. وهكذا يقول عني الحاقدون ولا أحد يدري من هم الكاذبون المخلصون لكذبهم، لا .. لا شيء وأسمح لي الآن ـ والحديث له ـ أقول كلاما لم أحدث به أحدا من قبل: كنت في بعض الأحيان أذهب إلى شواطئ عدن صباحا لا أحد هناك كلهم نائمون حتى الظهر، الشاطئ هادئ اخترت المكان والساعة لا أستطيع أن أصرخ (أريد أن أحيا) ثم أعود من حيث أتيت إلى جهنم المدينة، إلى الوحوش الكاسرة التي تملأ الشوارع، وجدت يادكتور ـ موجها الكلام لي ـ لأحيأ لأعيش أكتفي بلقمة عيش، غذائي الجمال وهوائي الفن ولا يوجد الجمال ولا يوجد الفن سوى بالتصاقهما بالحقيقة أنثر الفرح.... وجدنا لنفرح في الحياة هل نسينا الفرح؟! ومتى سنفرح وننشد الأناشيد التي لا نسمعها.. كل يوم أناشيد بشعة وكاذبة؟ أغان ساقطة وهزيلة؟”.... هكذا تحدث فيصل وسكت، قلت له بصوت هادئ أرجوك يا ابن علوي أسمع ما أقوله وأشرت إليه ليرى عصفورا يتنقل في إحدى الأشجار داخل حوش داره، صمت ورد: هذا العصفور لا حول له ولا قوة (كحالتي) يشدو لوحده.. لا أحد يشاركه.. لا أحد يشدو ويغني، أشعر بالملل.. أصبحت أنام ليل نهار وأستيقظ لأتكلم عن الحياة والموت وعن القلم والجهل، عن الثقافة والفن، لكنني نائم .. الملل.. الخلود الدائم.. قلت له بصوت عال: أنظر يا ابن علوي إلى النور لكنه لم يتحرك هذه المرة ولم يتحدث، سألته هل قرأت قصيدة فلان وهل سمعت أغنية فلان؟ لم يجب بقي صامتا وعلى شفتيه ابتسامة الرضا.. هو يرضى بحاله راض بما قدمه في حياته.. الحياة سنوات وتمضي ثم تنتهي .. هكذا كان يقول دائما ونادرا ما يقول شيئا عن الخلود.
انتهى النهار.. بسط الليل ستاره على الطبيعة، بقي قاعدا تركته وسرت وحدي بعد أن ظفرت على وجهه ابتسامة الرضا والسعادة.
هذه الحوارات مع فناننا الكبير فيصل علوي (رحمه الله) تترجم الحالة التي وصلنا إليها هذه الأيام.. هناك ذكريات وحوارات أخرى عديدة أحتفظ بها لوحدي.
وفي هذه المناسبة أود أن أعبر عن عزائي الشديد لأسرة كل من الفنان الكبير فيصل علوي وأيضا لأسرة الفنان الكبير محمد مرشد ناجي صديق عمره وزميل مهنته الذي اقتضى قدر الله أن يتوفاه في نفس التاريخ 7 فبراير مع اختلاف العام في 2013م.
وأختم مقالي هذا بعبارة قالها الفنان الكبير المرشدي في فيصل علوي (إن ظاهرة فيصل الفنية هي الفريدة من نوعها ولا يمكن أن تكرر لفترة طويلة من الزمن).

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى