عبد القاهر الجرجاني ورأيه في الإعجاز بالنظم (2-1)

> اعداد / د. محمد بن سعد الدبل

>
عبدالقاهر الجرجاني
عبدالقاهر الجرجاني

نحن الآن مع شيخ البلاغة وإمامها، الذي رفع قواعدها وأحكم بناءها، (ورأيه في الإعجاز قائم على التربية الفنية؛ تربية الذوق والإحساس والشعور؛ وذلك بممارسة أي نص أدبي أو قرآني، حتى إذا ما ألف الذوق النقد، مارس النص القرآني باحثًا عن الجمال فيه، ففي نظمه يكمن سر إعجازه).
إذا كان عبد القاهر يقرر أن تربية الذوق إحدى الدعائم التي تعين على إدراك سر الإعجاز بالنظم في القرآن، فما دليله على ذلك ؟ .. إننا نجد الدليل واضحًا فيما يسوقه من الآثار الأدبية والنصوص القرآنية مفسرًا ومحلِّلاً، اقرأ قوله في دلائل الإعجاز: “إنكم تتلون قول الله - تعالى - :
﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ﴾، وقوله - عز وجل - : ﴿فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ﴾ وقوله:
﴿بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾.
فقولوا الآن: أيجوز أن يكون - تعالى - قد أمر نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بأن يتحدى العرب أن يعارضوا بمثله، من غير أن يكونوا قد عرفوا الوصف الذي جاءهم من قبله التحدي ؟ .. ولا بد في الجواب من (لا)؛ لأنهم إن قالوا: يجوز، أبطلوا التحدي من حيث إنه - كما لا يخفى - مطالبة بأن يأتوا بكلام على وصف، ولا تصح المطالبة بالإتيان به على وصف من غير أن يكون ذلك الوصف معلومًا للمطالَب، ويبطل بذلك دعوى الإعجاز أيضًا”.
وهذا الوصف الذي يمهد به عبد القاهر، أيكون في اللفظة المفردة، أم في التركيب؟ أم في المعاني؟ أم في الحركات والسكنات؟ أم في المقاطع والفواصل؟ أم فيما يجد من صورة بديعة مبنية على استعارة أو تشبيه ؟ إذا امتنع إعجاز لدى عبد القاهر بهذا كله، ففي ماذا يكون؟!
إن الإشارة إلى الممهد به لا يعين على فهمه إلا فحصه بتذوق النظم وحلاوته؛ فبالنظم والتأليف يكون الإعجاز، وليس هذا الأمر إلا في القرآن.
وهذا شاهد على ما ذكره عبد القاهر، وذهب إليه في الإعجاز بالنظم؛ إذ يقول في كتابه دلائل الإعجاز: “هل تشك إذا فكرت في قوله - تعالى -: ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾، فتجلى لك منها الإعجاز، وبهرك الذي ترى وتسمع، أنك لم تجدْ ما وجدت من المزية الظاهرة، والفضيلة القاهرة، إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض، وأن لم يعرض لها الحسن والشرف إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية، والثالثة بالرابعة، وهكذا، إلى أن تستقريَها إلى آخرها، وأن الفضل تَناتَجَ ما بينها وحصل من مجموعها ؟
إذا شككت فتأمل: هل ترى لفظة منها بحيث لو أخذت من بين أخواتها وأفردت، لأدت من الفصاحة ما تؤديه، وهي في مكانها من الآية؟ قل: ﴿ابْلَعِي﴾ واعتبرها وحدها، من غير أن تنظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها، وكذلك اعتبر سائر ما يليها.
وكيف بالشك في ذلك؟ ومعلوم أن مبدأ العظمة في أن نوديت الأرض، ثم أمرت، ثم كان النداء بـ: “يا” دون “أي”، نحو: يا أيتها الأرض، ثم أمرت، ثم إضافة الماء إلى الكاف دون أن يقال: ابلعي الماء، ثم أن أُتبع نداءُ الأرض وأمرُها بما هو من شأنها، نداء السماء وأمرها كذلك بما يخصها، ثم أن قيل: ﴿وَغِيضَ الْمَاءُ﴾ فجاء الفعل مبنيًّا للمفعول، وتلك الصيغة تدل على أنه لم يَغِضْ إلا بأمر آمر، وقدرة قادر، ثم تأكيد ذلك وتقريره بقوله - تعالى -: ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾، ثم ذكر ما هو فائدة هذه الأمور، وهو ﴿اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ﴾، ثم إظهار السفينة قبل الذكر كما هو شرط الفخامة، والدلالة على عظم الشأن، ثم مقابلة “قِيلَ” في الخاتمة بـ: “قِيلَ” في الفاتحة.
أفترى لشيء من هذه الخصائص التي تملؤك بالإعجاز روعة، وتحضرك عند تصورها هيبة تحيط بالنفس من أقطارها تعلقًا باللفظ من حيث هو صوت مسموع، وحروف تتوالى في النطق، أم كل ذلك لما بَيْنَ معاني الألفاظ من الاتساق العجيب؟”.
وبمثل هذه الأسلوب التحليلي الرائع يصل عبد القاهر إلى ما يريد من تقرير ما أسلف، من أن الشأن للنظم كاملاً، ولا شيء من الاعتبار للَّفظ وحده قبل أن يدخل في هذا النظم المعجز، ولا شك أن تحليل عبد القاهر للآية الكريمة تحليلُ خبيرٍ بدرجات الكلام، هداه إليه فكر ثاقب، وبصيرة نيرة، وذوق سليم.
ويشير الدكتور بدوي طبانة في كتابه (البيان العربي) إلى أن عبد القاهر في عرضه لهذه الآية نسي فضل الألفاظ المختارة، فهنالك قبل هذا النظم وهذا التلاؤم الذي فصَّله، وهذا الوضع للكلمات على هذا النسق العجيب تخيُرٌ لكل لفظ، ولا شك أن هنالك ألفاظًا غير هذه الألفاظ كان يمكن أن تؤدَّى بها هذه المعاني، ولكن الفضل يظهر في التخير والانتقاء، المبني على تفضيل لفظ على لفظ آخر”.
ولو أردنا استقصاء الأمثلة والشواهد التي ساقها عبدالقاهر من القرآن الكريم ومأثور كلام العرب، لأفضى بنا ذلك إلى الاستطراد، وما ذكره من ذلك قارٌّ في موضعه من كتابيه: (أسرار البلاغة) و(دلائل الإعجاز)، يمكن لأي باحث الوقوف عليه.
والآن نتجاوز عبد القاهر إلى غيره من العلماء ممن سبقه، وممن جاء بعده، ورأى الإعجاز بالنظم.
لعل من أقدم القائلين بالإعجاز بالنظم “أبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ”، الذي ألف كتابًا عن إعجاز القرآن في نظمه، غير أني لم أجد هذا الكتاب، وكل ما يذكره عنه الباحثون (اسمه فقط)، ويستخرجون رأي الجاحظ وقوله في الإعجاز بالنظم من بين ثنايا كتبه على طريقته في الاستطراد، والخروج من مسألة إلى أخرى، وخلاصة ما يراه في الإعجاز بالنظم يتضح من قوله الذي نقله المبرد في هامش كتابه (الكامل): “إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - مخصوص بعلاقة لها في العقل كموقع فلق البحر من العين”.
وذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - لقريش خاصة والعرب عامة مع ما فيها من الشعراء، والخطباء، والبلغاء، والدهاة، والحكماء، وأصحاب الرأي والمكيدة والنظر في العاقبة: إن عارضتموني بسورة واحدة، فقد كذبت في دعواي، وصدقتم في تكذيبي، قال الجاحظ: ولهم بعد ذلك أصناف النظم، وضروب التأليف؛ كالقصيد والرجز والمزدوج والمجانس، ثم هم بعد ذلك التحدي عرَفوا عجزهم، وأن ما طلب منهم لا يتهيأ، فرأوا الإضراب عن ذكره والتغافل عنه أسلم لهم في هذا الباب.
ومن رأي الجاحظ في الإعجاز بالنظم قوله: “وفي كتابنا الذي يدلنا على أنه صدقٌ نظمُه البديع الذي لا يقدر على مثله العباد، مع ما سوى ذلك من الدلائل التي جاء بها”.
كما أن الجاحظ قد فطن إلى أن لألفاظ القرآن ميزةً أزيد على غيره من حيث النظم، وهي: “إتيان بعض ألفاظ المقترنة متصاحبة، لا تكاد تفترق؛ كالصلاة والزكاة، والجوع والخوف، والجنة والنار، والرغبة والرهبة، والمهاجرين والأنصار، والجن والإنس”.
وهذه الفطنة تدلنا أيضًا على رأيه وقوله بالإعجاز بالنظم، وهذا محصل ما قاله في هذا الصدد، وإلى جانب اهتمام الأدباء وأهل اللغة بإبراز مزايا النظم القرآني وأسلوبه، تعرَّض أهل الحديث والفقه للرد على الشبهات التي أثيرت حول أسلوب القرآن ونظمه وبلاغته.
وفي جملة أولئك ابن قتيبة في كتابه (تأويل مشكل القرآن)، الذي يعد من الآثار الجليلة التي خدمت لغة القرآن وأسلوبه، وقد عني فيه بالمجاز، وتوسع في مفهومه، والذي يهمنا منه في هذا المقام رأيه في الإعجاز بالنظم؛ إذ يقول في مقدمه كتابه: “والحمد لله الذي نهج لنا سبل الرشاد، وهدانا بنور القرآن، ولم يجعل له عوجًا، بل نزله قيمًا مفصلا بينًا، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، وقطع بمعجز التأليف أطماع الكائدين، وأبانه بعجيب النظم عن حيل المتكلمين، وجعله متلوًّا لا يمل على طول التلاوة، ومسموعًا لا تمجه الآذان، وغضًّا لا يخلَق على كثرة الترداد، وعجيبًا لا تنقضي عجائبه، ومفيدًا لا تنقطع فوائده... وجمع الكثير من معانيه في القليل من لفظه” .. هذا ملخص بعض أقوال ابن قتيبة في الإعجاز بالنظم.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى