مراهقة متأخرة

> عبدالله قيسان

> عندما قرر أن يخوض معها قصة حب، كان متردداً، نظراً لفارق السن بينهما، فالشيب في رأسه يلوم تصرفاته الصبيانية، وحركات الطيش والمراهقة التي تبدر منه أحياناً، وتسقط من شخصيته أمام المجتمع، وهو ينتظر خروج الطالبات في فناء الكلية، حتى تخرج ليراها.. وكان خائفاً من ردود أفعال سلبية قد تحطم معنوياته وتحبطه وهو في بداية الطريق، وطريق العشق طويل.. فهو غالباً ما يأتي الكلية ليستعرض سيارته وأناقة ملابسه المزركشة الجميلة أمامها، ولكن ما يدفعه على الاستمرار، ويزيد من حماسه ابتسامتها عندما تراه:
- كنها معجبة يا ليد؟
- أو عاتبة عليك (قال صاحبه)
- عادها عاتبة!
- طيب كلمها؟
- لا لا .. حبة حبة يا أهبل.
هذا هو وقت خروجها من الكلية.. الحادية عشرة والنصف صباحاً، إنه وقت انتهاء المحاضرة الأولى، حين مرت بجانبهما، ولم ينبس العاشق المتيم بكلمة، ولم تلتفت هي، برغم ابتسامتها التي ترسلها كلما تراه.. أفعمته رائحتها العبقة عند مرورها، فأخذ منها نفساً عميقاً حتى كاد أن يقع دون أن يشعر صاحبه المتصلب بجانبه.. لقد ضاعت عليه فرص كثيرة لم يغتنمها وندم عليها الآن، حين كان مديراً ملء السمع والبصر.. يأمر وينهي وله اعتمادات وإمكانيات، وكانت هي في ظروف معيشية صعبة، فلم يهتم بها ولا بأسرتها برغم قربها من سكنه في الحي، بل كان يتباهى بموظفاته وهن متسلطنات مقهقهات بجانبه في السيارة الفارهة، وهي ماشية على الأقدام راجعة من المدرسة الثانوية في عز الصيف، وتظهر في مرآة السيارة المبتعدة كالخيال وسط السراب، أما اليوم وقد توظف أخوها في الخليج والحال تحسن والمعيشة مستقرة، يقابلني!..
فتح باب السيارة، وركب صاحبه بجانبه:
- باقي لها عودة العصر تقريباً (قال وهو يشغل السيارة)
- لكن غيّر ديكورك.. اصبغ شعرك، افتح أغاني شبابية، البس بنطلون (قال صاحبة مشجعاً).
- لكن بالله لاتجي معي .. ادبرتني!
- أنا أساعدك يا مغفل!
- مستحيل تطلع وأنته معي
- يعني أنا ضايقتك؟
نزل صاحبه غاضباً من السيارة، ودعا له بالتوفيق.. تحركت السيارة.. في الطريق إلى البيت، كان يفكر ويبحث عن طريقة أو أسلوب يجذب به جارته الحلوة التي سيطرت على مشاعره وأسرته على آخر عمر.. أوقف السيارة، ودخل البيت، فقفزت إلى ذهنه فكرة.. لم يقعد بل استدار ورجع سريعاً إلى السيارة، وانطلق سريعاً إلى السوق.. هناك وقف عند صاحب الإعلانات - الخطاط وطلب منه أن يكتب على السيارة بخط جميل: (أجرة - مشاوير).. خلص الخطاط من عمله واستلم أجرته، وهكذا اعتلى القيادة، وكان يحادث نفسه بإعجاب: “ما الآن باجيبها كبع”. وأخذ يضاحك نفسه حتى وصل البيت في الخامسة عصراً، وفناء الكلية شبه خال من الطلاب إلا من له واجب مؤجل، أو زيارات إلى المكتبة لإعداد بحوث أو متعلقات أخرى، ولأهمية تخصصها والسنة الدراسية بالنسبة لها (رابعة طب) تتواجد أحياناً العصر في المكتبة، ولم يخب ظنه وهو واقف بجانب سيارته صابغ شعره، وصوت خليجي خافت من المسجل، أخذ يصعده عندما راءها قادمة: “لكن معها زميلة اليوم!.. وأخذ يبتسم.. اقتربتا منه، فبادرت الزميلة بالإشارة إلى أخذ مشوار الليلة لأن الوقت متأخر، فأخذت تقترب من سيارته رغم معارضة صاحبتها، ولكنها ركبت تحت إصرارها.. انطلقت السيارة، أخذ السائق العاشق يتفاءل، وبدت تصرفاته أكثر حيوية ومرحاً فإذا به يتمايل ويهز رأسه مع النغم، ويضرب بأصابعه على عجلة القيادة مع إيقاع الأغنية حتى نهاية الشارع.
- على جنب ياحاج (قالت زميلتها وهي تمد يدها بالفلوس)
- لا اليوم أنتم ضيوفي (قال وهو يلمس رأسه تضايقاً من كلمة حاج)
- تشتغل ولا تعزم (وجدلت له الفلوس)
ودّعت صاحبتها ومضت ضاحكة.. واصل القيادة أملاً في الحسم مع بقاء الحبيب المطلوب والانفراد به لأول مرة بعد صبر طويل وتضحيات، أخذ يراقبها عبر المرآة وقلبه يدق بقوة.. وهي في المقعد الخلفي تتعمد النظر إلى بعيد حتى لا يلتقي نظرهما، واختفت ابتسامتها المعتادة، وبدت الصرامة والجد عليها، حتى منعطف الشارع:
- على جنب يا والد.
- على البيت ولا لا ؟ (قالها بضجر من كلمة والد)
- أنا نازلة هنا سأمر عبر شارع التحرير
- طريق طويل!
نزلت وطبقت الباب ثم مضت دون أي التفات.. ولم يحرك السيارة، ظل جامداً، متكئاً برأسه على عجلة القيادة، وأخذ ينظر بهزيمة وحسرة إلى أسفل، فإذا ورقة نقدية من فئة الخمسمائة ريال مرمية بين قدميه، فلم يلتقطها بل ظل متصلباً ومنفعلاً، حتى تغير لونه، وتهدج صوته وهو يتمتم ساخراً: “ياحاج.. قالت يا والد!” أوقف السيارة وترجل خائباً.
**عبدالله قيسان**

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى