(صيرة) وميناؤها الشهير.. قراءة موجزة في تاريخها

> علي راوح

> صيرة .. أطلق هذا الاسم على أكثر من جبل في اليمن أشهرها (صيرة عدن) أو قلعة صيرة، وهو جبل يقع في وسط لجة من البحر في كريتر، واشتهر الميناء القديم لعدن بميناء صيرة ومن هذا الميناء دخلت القوات البحرية البريطانية بقيادة القبطان (هينس) يوم 19 يناير 1839م وهو يوم تدشين الاحتلال البريطاني لعدن الذي دام نحو 129 عامًا.
يقول الأستاذ الفقيد عبدالله أحمد محيرز في كتابه القيم الذي حمل اسم (صيرة) الذي أصدرته جامعة عدن عام 1992م في ذكرى وفاته الثانية يقول:
أطلق اسم صيرة كذلك على جبل يقع في مخلاف شرعب وسط مزارع وقرى، بل إن الكلمة بصيغة المذكر اسم لجبل إما علم أو اسم لجنس، فقد روي عن الإمام علي كرم رضي الله عنه أنه قال: “لو كان عليك دين مثل (صير) لأداه الله عنك”، وفسره ابن الأثير أن صير اسم لجبل، ويرد في أرجوزة الرفيق النافع اسم (صيرة) لجبل في ميناء مسقط، وتضيف القواميس للكلمة معاني أخرى لاتمت للجبال بصلة فيصف القاموس (الصير) بأنها السمكات المملوحات، والصيرة حضرة للأغنام، واسم المكان الفعل (صار) فيقال له صيره، ويمكن لبعض المعاني القاموسية أن تتخذ تعليلًا للاسم، ولكن تعريفه بالتحديد أمر يتطلب مزيدا من القرائن القاموسية، ولا يرد هذا الاسم عند الهمداني في الصفة لمعاصره المقدسي في كتاب (أحسن التقاسيم)، وإن تغنى الأخير بفرضة عدن وشهرتها، ولا يرد أيضا في تاريخ اليمن لعمارة اليمني الذي عاش حتى منتصف القرن السادس الهجري، وإن أشار ضمنيًا إلى الموقع الذي ترسو فيه السفن.

ويرد في وثائق الجنيزة اسم صيرة كجبل وجزيرة، وهي أول مرة ورد فيها الاسم مكتوبًا فيما هو متوفر من وثائق، ولكنها لا تطلقه على الميناء بل على الجبل وحده، ونشر (جوتاين) وثيقتين لبعض تجار الكارمية هما جزء من وثائق الجنيزة عن غزوة ملك (قيس) لعدن وعلق عليها بدراسة تحليلية لها مع ما ورد عند ابن المجاور عن هذه الغزوة، وتفيد هذه الوثائق أن السفن المهاجمة رست في (مكلا عدن) أي في مينائها وأن جنودها نزلوا في صيرة (الجبل) بعد أن استولوا عليها، وأهل المدينة في البر أي على الساحل، كما يكرر ابن المجاور بعد قرن تقريبًا هذا التمييز أيضا ويفيد أن سفن الغزاة رست في مرسى عدن تحت جبل صيرة، وقد درجت المصادر التراثية على التعبير عن المدينة باسم (ثغر عدن) أو (الثغر المحروس) وعلى مرساها هذا الخليج تحت جبل صيرة (البندر) أما غيره من بنادر عدن فيضاف إليها مايميزها عنه وعن بعضها كبندر حقات وبندر ضراس المجاور له، وأطلقت صيرة على الجبل وحده، كما هو الحال إلى اليوم، وتجاوزت المصادر الحديثة فأطلق الاسم على الجبل والخليج نفسه وساحله ومع بقاء اسم الجبل، كما هو إلى اليوم، تفنن الناس في تسمية هذا الخليج فسمي كما سبق بـ (مكلا عدن) و (مكلا صيرة) و (البندر) وهو اسم بقي إلى اليوم يطلقه شيوخ الصيادين على رأس صيرة نفسه، وأضيفت إليه أسماء أخرى بعد الاحتلال البريطاني فسمي بـ (الخليج الأمامي) و (الخليج الشرقي) و (الخليج الداخلي) كما أضيف إليه اسم رابع بعد أن أقيمت على ساحله المنشآت العسكرية بعيد احتلال الإنجليز للمدينة، وهو اسم (Regiment)، وحرفت هذه التسمية إلى (الرزميت) وأطلق على الخليج (خليج الرزميت)، وفي الواقع اقتصر هذا الاسم على نصفه الشمالي باتجاه سلسلة المنصوري، بينما استمر الناس بتسمية الجزء الجنوبي بـ (ساحل صيرة).
ويمضي عبدالله محيرز في كتابه (صيرة) فيقول: يخيل للمتأمل لجبل صيرة أنه لو أمكن أن يتحول رأسه الجنوبي عند جبل حقات إلى نقطة ارتكاز وتزحزح رأسه الشمالي تدريجيًا حول هذه النقطة لأمكن أن يصل إلى جبل المنصوري تقريبًا، ويغلق الدائرة التي تكوَّن فوهة لبركان ولا يعرف متى أو أي نوع من الزلازل قذفت به هذه المسافة وسببت هذه النافذة على العالم لتجعل من عدن هذا الثغر العريق بدلًا من فوهة بركان خامد شبيهة بفوهة أخرى على البحر بالقرب من (بير علي) يشرب ماء البحر من قعرها فتبدو من الجو بحيرة زرقاء.

وتظهر مدينة عدن للقادم من البحر في اتجاه صيرة وكأنها - كما وصفها مصدر أجنبي في مطلع القرن الثامن عشر - أشبه بقوس وترى ساحل صيرة وهو الممتد من سطح جبل حقات شرقًا إلى سفح سلسلة المنصوري غربًا، ومن الصعب تخيل حالة هذا الساحل في سابق عهده قبل انتشار المعسكرات والقصور والمستشفيات والمنازل السكنية عليه، فإن ماحدث له خلال الحقب الماضية - لاشك - قد غير معالمة الأصلية نهائيًا، ويمكن لمن يزور الموقع حالياً أن يلاحظ موج البحر في الحالات العادية وقد وصل بفتور إلى الساحل الحالي وهو في أجزاء منه عبارة عن أكوام من التراب أو منشآت ظهرت تدريجيًأ منذ احتلال المدينة، أما في حالة الجزر فلا يكاد يصل إلى نهاية الطريق الممتد إلى الجزيرة، وقد تكلمت المصادر التراثية عن عنف الأمواج التي تأتي من ناحية رأس (شرشوة) فتعبث بالمراكب في الميناء وتشكل خطرًا عليها، فتم بناء حاجز حجري لكسر حدتها فأصبح المرسى آمنًا، وعند هدمه من قبل الأهالي ظنًا منهم أنه لا أهمية له عادت الأمواج إلى سابق عهدها فاضطروا إلى إعادة بنائه.

وذكرت كتب الرحلات والتجار الذين زاروا عدن منذ مطلع القرن التاسع عشر عن وجود لسان آخر في رأس جبل صيرة شبيه بالأول في رأس شرشوة لحماية المرسى والسفن من الناحية الجنوبية أيضًا، والذي وصفه ابن الديبع بأنه عندما أشتد الأزيب (موسم الرياح) ثارت هذه الأمواج واضطربت حتى بلغت درجات باب المدينة البحري، وعزى القائد البرتغالي (البوكرك) فشل جيشه بتسلق سور عدن إلى عنف الأمواج عند المد إلى السور، وعندما زارت سفينة اليسوعيين عدن في طريقها إلى الحبشة أيام الأمير حسين عبدالقادر أمير خنفر وعدن وصف خليج صيرة من جانبه الشرقي أنه يوجد فيه ماء كاف لترسو عدة سفن قريبًا من الشاطئ محمية من الرياح، وعندما زار (Larogue) المدينة عام 1709م كان الميناء لا يزال عميقًا ترسو السفن في أي مكان فيه، وقام أحد مهندسي البحرية البريطانية (Kromil) بمخطط كامل هذا المرسى في عام 1718م (قبل قرن وعشرين عاماً من احتلال عدن) شمل تقديرات دقيقة لأعماقه في مواقع متعددة، وكان عمقه قريبًا من السور حوالي ثلاثة أقدام في موقع لا يصل إليه الماء على الإطلاق، بل يرتفع الساحل عنه عدة أقدام فوق سطح البحر.
إلا أن الموقف تغير تغيرًا مفاجئًا بعد قرابة قرن من رسم هذه الصورة، فقد كتب (Wolsted) عام 1835م (أربع سنوات قبل احتلال الإنجليز لعدن) يصف هذا الميناء وما وصل إليه حاله: ومن هذا الميناء لم يبق إلا قناة ضيقة ذات عمق كاف لسبع أو ثمان بغلات أن ترسو فيه، أما بقية الميناء فقد ابتلعته الرمال التي يبدو أنها تراكمت فيه في وقت قصير جداً فلا يزال يرى صارى سفينة تركية قديمة فوق الرمال التي دفنتها في نفس الموقع التي رست فيه وكان الماء فيه عميقا قبل 30 سنة، ولا يزال بعض القدماء في السن من الأهالي يتذكرون رسو السفن الكبيرة لتفرغ حمولتها في المرسى الذي لا يمكن أن تصل إليه الآن أصغر سفينة، فما هي التحولات البيئية والمناخية والجغرافية التي أدت بهذا الموقع الفريد أن يتحول في وقت قصير إلى سبخة تعجز أن تجابه التحديات التي يفرضها التطور الملاحي في العالم.
وتساءل الكاتب قائلا: وما الذي حدث لهذا الميناء الشهير الذائع الصيت الذي صمد لعوادي الزمن ونافس أشهر الموانئ حقبًا من الدهر، وقاوم أعنف الغزوات للسيطرة عليه ليتحول في نهايته إلى خليج بائس وحزين لاصطياد السمك بعد أن استضاف خلال تاريخه أضخم السفن، وانقلبت فرضته التي أفرغت السفن حمولتها من فاخر اللباس وأغلى العطور وأثمن الجواهر إلى رمال بنى عليها الاحتلال البريطاني المعسكرات والثكنات، فلا يمكن لما حدث أن يفسر بإهمال المدينة أو أولياء الأمر فيها لهذا المرسى وإن كانت هذه الفترة فترة تدهور وانحطاط قبيل احتلالها بسنوات، وأنه لابد من عوامل أخرى تفسر ماحدث لأعرق ميناء في القدم، والذي كان صالحا طيلة حقب طويلة؟. وللإجابة على ذلك فإنه من الصعب الحصول على معلومات إحصائية في كتاب التراث، ولكن يمكن أن تفسر مقارنة بما حصل في سواحل مقابلة من خليج عدن حدثت في شواطئها تحولات شبيهة، حيث تأثرت كثير من السواحل الجنوبية لعوامل تغير من طوبوغرافيتها.
**علي راوح**

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى