عاشق الشاي العدني

> مازن رفعت

>
مازن  رفعت
مازن رفعت
قالوا عنه إنه يتنفس الشاي العدني، فلو أعطيته إبريقًا ممتلئًا بالشاي لما اكتفى به، تراه كلّ يوم بوجهه الأسمر، وشعره الأشعث الأغبر، ولحيته الكثة، وصدره العاري الفاضح لعظامه، وفوطته الممزقة، يجلس في مقهى (زكّو)، يشرب قدحًا تلو الآخر على الطريقة العدنية، يفرغُ القدحَ من الشاي إلى صحنٍ صغير خاص بالشاي، كي يحرره من الحرارة، ويرتشف الشاي من الصحن مباشرة.
هو عبده فوفل أو ما تبقى منه.. أطلقوا عليه لقب فوفل لأن فمه لا يتوقف عن تحريك الفوفل بين ضروسه.. كان عبده فوفل يعدّ شايًا عدنيًا قلّ نظيره، أكان أحمر أم بالحليب، يُخيلُ إليكَ عندما ترى أحدهم يرتشف من هذا الشاي وكأن عدن كلها تردد صدى الرشفة، ومن كلّ فجّ عميق يقبلُ عشاق الشاي العدني.
بات مقهى (زكّو) ملتقًا سياسيًا وثقافيًا وفنيًا، جمع صفوة المجتمع، يُحكى أن الفنان أحمد قاسم، أعدّ لحنًا في (زكّو) بعد أن تناول فنجان شاي أعدّه عبده خصيصًا له.
في عام 1990م تمت الوحدة مع شمال اليمن، ثم اندلعت حرب صيف 1994م، تغيرت التركيبة السكانية لمدينة عدن، اختلطت بها أنفس جديدة، غيرت من نكهتها، وحده شاي عبده حافظ على نكهته، وكأن الزمان توقف عنده، وذاب فيه مع السكر، إذ كلّ من يرتشفه، يذوق طعم الزمن، نكهة الماضي المعتق، ترتشفه سنة بعد سنة، لتكتشف بعد أن يفرغ الفنجان أنك شربت تاريخ عدن!!
ذات يوم، جاء زبون من خارج عدن إلى المقهى، طلب شايًا، وعندما شرب أول دغمه، بصقه، وصاح:
هذا أسوأ شاي أذوقهُ في حياتي!
لم تعتدّ أذنا عبده غير المديح والإطراء، حتى ظن أنهُ ملك الشاي العدني دون منازع، وجملة مثل التي تفوه بها ذلك الغريب كانت كفيلة بإيقاظ عبده فوفل من غفوته الملكية، ويستوعب أن الزمن تغير وعدن لم تعد كما كانت، فراح يتلفت حوله في توتر وكأنه تائه، ثم فر من المقهى، ولم يره أحد منذ ذلك اليوم.
مضت سنة من اختفاء عبده، تغير طاقم المقهى، وتغير طعم الشاي، صار باهتًا، فقد سحره ونكهته، كما فقدت عدن نكهتها، ومع مرور الأيام، قلّ الإقبال عليه، وفي ذات نهار، فوجئ الناس بعبده فوفل يقبل على المقهى بهيئته البائسة، وأدركوا بمرارة أنه قد جُن!!
جلس عبده على أحد المقاعد، وأشار برغبته لشرب الشاي، همّ النادل الذي يجهله بطرده، لكن رواد المقهى نهروه وتكفلوا بدفع ثمن الشاي، ومن يومها، قضى عبده فوفل يتردد على مقهى (زكّو) يوميًا يشرب فنجانًا تلو الآخر على حساب رواده، لا يحادث أحدًا، يبقى صامتًا ويشير بيديه لكل زبون أن يسقيه شايًا، ويظل على هذه الحال حتى يغلق المقهى، فيعود في اليوم التالي.
فوجئ عبده ذات يوم أن المقهى مغلق ولم يفتح كعادته، بقي يحوم حوله إلى نهاية اليوم، لأنه جهِلَ ما علمه الجميع، بأن المقهى بُيع لتاجرٍ يرغب في تحويلهِ إلى محلٍ تجاري، عاد عبده مقبلًا كعادته للمقهى، رأى عمّالًا منهمكين بتكسير المقهى، صاح عبده معترضًا، حاول منعهم، دفعه أحدهم بقوة وأسقطه أرضًا، استند عبده على ركبتيه وهو يشاهد مقهاه يتحول إلى ركام، أطلق صرخة قهرٍ، التقطتها السماء مع أنفاسه، ليسقط ميتًا.
دُفِنَ عبده في مقبرة (القطيع)، وكُتِبَ على قبره، (عاشق الشاي العدني).

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى