هشام باشراحيل...عندما يكون الرحيل بقاء في النفس

> د. هشام محسن السقاف

>
د. هشام محسن السقاف
د. هشام محسن السقاف
منوط بنا التفكير ولو لمرةٍ بالخروج من دوائر الأحزان واكتنازها كمناسبات رثائية كانت أو تأبينية لأشخاص كان فقدهم جرحًا غائرًا في نفوس محبينهم، بالبحث خارج دائرة الموت كأن يجري الاحتفاء بتواريخ الميلاد والمجيء إلى هذه الدنيا لا مغادرتها، والصدق أقول إن الخروج من “ثقب” العادة أعسر من ولوج الجمل في سَمِّ الخياط.
أما صاحبي الذي أفتقده بشدة الأستاذ الكبير هشام محمد علي باشراحيل فقد كان نمطيًا على طريقته حتى في رحيله المبكر في 15 يونيو 2012م، فقد ألقى بظلال شخصيته الكاريزماتية حائلًا بيننا وبين أن نحزن بسلوكيات البشر، بالبكاء والرثاء وتعداد المناقب كما اعتدنا دهرًا او حتى عندما يغالي المغالون بلطم الخدود وشق الجيوب، باستقدام الحزن النبيل الذي لا يمنعنا من التفتيش في تجربة الموت نفسها واستلهام المناقب من صاحبنا المفارق حتى لا يكون الموت عائقًا والاستمرارية المرجوة للحياة. كان الباشراحيل هشام يقول:
“الحزن يبدأ كبيرًا وينتهي صغيرًا” فمثلًا رأيته يحزن بطريقته تلك حين فارقته هناء - رحمها الله - وهي في زهرة شبابها وكانت الأقرب إلى قلب أبيها وظلت تحوم حوله طيفًا جميلًا حتى رحيله المؤسف، دون أن يكون الحزن تعويقيًا لصاحبه عن سيرورة معتادة في الحياة.
عندما ضمنا الأستاذ نجيب محمد اليابلي وأنا، تلفزيون عدن بعيد وفاته، كنا نخلق في الأجواء المعتادة التي جمعتنا بالفقيد دون أن يتسرب إلى دواخل العقل والنفس أنه قد تركنا إلى غير رجعة، وتلك خاصية الرجال العظام ممن يتركون آثارًا وأعمالًا من الصعب انقطاعها أو نسيانها بسرعة.
تذكرني هذه الأسرة ومشروعها الصحفي الرائد «الأيام» بتماثلات وتشابهات بمشروع علي ومصطفى أمين في مصر، مع الاحتفاظ بخصوصيات كل بلد واختلاف المشارب والرؤى والقناعات، فالأب المؤسس الأستاذ محمد علي باشراحيل يستطيع أن يتخطف أسرار الوهج الصحفي في عدن على نهاية الخمسينيات من القرن الماضي بملامح الحالة القومية والثورية الناهضة والوطنية انحيازًا لتلك الحالة، كما تدلنا أضابير الصحيفة ومقالات الأستاذ واتجاهات الخبر وتسويقه جماهيريًا لتحتل الصحيفة الحيز العريض في شارع الصحافة العدنية بشهادة المعاصرين، ومنهم الفنان العملاق محمد مرشد ناجي. ذلك يغنينا من الانصياع لهرطقات بعض منظري اليسار المراهق عن الأستاذ فترة ما بعد الاستقلال.
إن النصف الممتلئ من الكأس بتجليات الصحافة الحرة في عدن ودورها الوطني المشرف لم يكن بسبب من مناخ الحرية الذي تتيحه الإدارة البريطانية حتى لا نبالغ، فالمتاح لا يتسع لأكثر مما ورد في قانون الصحافة المتضمن كوابح أشار إليها الأستاذ الكبير عمر الجاوي في أطروحته في الصحافة العمالية بعدن، حيث تغدو تلك الكوابح رقيبًا على كل مايصدر.
ولكن الأمر منوط حقًا بإرادة وطنية لرجالات تلك الفترة، ممن كان باستطاعتهم الاستفادة من المتاح وتسخيره لقضايا عدن والجنوب واليمن والوطن العربي إجمالًا، فأرشيف الصحافة لتلك الفترة حمل إلينا تاريخًا متحركًا ومفعمًا بالحقائق الموضوعية لمشيئة التحول الكبير الذي شهدته عدن بعد الحرب العالمية الثانية.
وكان الجاوي نفسه قد شرع بالتاريخ لتلك الفترة معتمدًا على ما كتبته الصحافة العدنية، ونشر بعضًا مما كتب في مجلة “الحكمة” وحالت مشاغل الرجل عن إخراج ما أرَّخه في كتاب.
*تراتبية أجيال غير مسبوقة
الإشارع إلى علي ومصطفى أمين في متن الموضوع تندرج ضمن هذا الانطباع الذي يتركه العمل المؤسسي العائلي، الذي بدأ في حالة التوأم علي ومصطفى أمين من أركان بيت السيدة روز اليوسف، وكان من الممكن أن نستدل بمؤسس الصحافة بمفهومها المهني الحديث، الشخصية الوطنية الكبيرة محمد علي لقمان وصحيفته الرائدة “فتاة الجزيرة” كدار صحيفة أهلية حازت قصب السبق التاريخي بإصدار “الفتاة”.
لكن ما ميز «الأيام» تراتبية التعاقب من الأب المؤسس عام 1958م إلى الأبناء “هشام وتمام” بالإصدار الثاني عام 1990م إلى الأحفاد “باشراحيل وهاني ومحمد” والحفيدات أيضًا في عهد الإصدار الثاني والثالث تحت رعاية العم تمام بعد رحيل عملاق الصحافة والسياسة والعمل الوطني والاجتماعي هشام باشراحيل.
وكانت حصص المعاناة القاسية مشتركة بين الآباء والأبناء في ظل بطش الدولة “الموحدة” حين خصت «الأيام» الدار والإنسان بوافر من استعراض القوة الهمجية لبيت كان - ولا ، يزال - كدار أبي سفيان من دخله كان آمنًا.
يكفي الراحل الكبير هشام باشراحيل أنه قد سار على درب من الأشواك وكان كالقابض على جمرة من جهنم، وهو يؤصل نهج «الأيام» الوطني وإبعاث روح الحراك في الجنوب بعد اجتياحه في حرب العام 1994م الظالمة.
وتعرض الرجل للحصار في دار «الأيام» بصنعاء وكان طودًا شامخًا وهو على بعد امتار من قصر الطاغية، الذي افتعل عملية سطو مسلح على الدار عن طريق عصابة بلطجية تصدى لها الفدائي المقدام أحمد عمر عباد المرقشي - فك الله أسره - والقابع حتى اليوم في سجون صنعاء بشموخ يتحدى ساجنيه.
ولعمري إن عودة هشام إلى عدن في موكب مهيب، بعد أن فرض الالتحام الجنوبي في صنعاء من مختلف الطيف السياسي فرض الالتحام الجنوبي في صنعاء من مختلف الطيف السياسي والاجتماعي المدافع عن هشام خروجه من الحصار رغم أنف الطاغية، لكن ذلك لم يمنعه من معاودة الكرة في عدن وإشباع غروره بضرب «الأيام» بالرصاص الكثيف والقذائف المتوسطة وقد اكتظت الدار بأهلها من الرجال والنساء والأطفال والعاملين فيها والمحبين والمناصرين، وقد صور الخيال المريض لصاحبه أنه سينال من «الأيام» وكبيرها هشام بتلك الهنجهية القذرة، وكان ما كان من أمر اعتقال هشام وأبنائه وكيف غدا السجان سجينًا ومحاصرًا بكريزما السجين هشام الذي لايأتيه الشك إطلاقًا بعدالة القضية التي يؤمن بها والتي رأى بعضًا من تباشير نهوضها الأسطوري الذي يشبه نهوض العنقاء من تحت الرماد.
فطوبى لـ«الأيام» والرحمة اللفقيد العزيز المقيم في النفس هشام باشراحيل.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى