ذات عدن.. ذات زمن

> أ. محمد عمر بحاح

> (5)
أ. محمد عمر بحاح
أ. محمد عمر بحاح
عدن لا تذهب إلى البحر، البحر يأتي إليها، ولا ينحسر عنها، لا أحد يستطيع أن يطمر البحر، ولا يهدم الجبل. ذات مرة حاول القادمون من وراء كهوف الأطماع، الذين لم يروا بحراً في حياتهم أن يردموا المساحة بين فندق عدن والمملاح، في حمى الاستيلاء على أراضي عدن بعد حرب صيف العام 1994، فسلط الله عليهم طيور الفلمنجو، المزهوة بنفسها، لأن تلك كانت محميتها منذ هجرتها الأولى من الأراضي الباردة إلى دفء بحر عدن وأمانها، فلا يزعجها أحد، حتى أزيز الطائرات التي تقلع وتهبط من وفي المطار. بقي البحر.. بقي طائر الفلمنجو.. بقي الناس الذين حموا البحر ومحمية الطيور.. وبقيت عدن، وعاد الذين حاولوا قتل الحياة من حيث أتوا، حاملين معهم شعارات الموت !!!!.
لا أحد ينسى أن الذي قاد حملة إنقاذ البحر صحيفة «الأيام» وناس المدينة العزل الذين دافعوا عن مدينتهم، بحرهم، وجودهم، طيورهم في وجه الاعتداءات لذوي الشهية المفتوحة الأشبه بجنون الغرب الأمريكي في البحث عن الذهب كما جسدته السينما الأمريكية.
عدن تقرأ..
القراءة تقلص المسافات.. وقد ساعد في نشر المعرفة اختراع الألماني غوتنبرغ للطباعة عام 1436م التي دخلت الحيز التجاري عام 1712م. في عدن أنشئت أول مطبعة سنة 1850م وسميت مطبعة السجن لأن المساجين كانوا يستخدمون في عملية الصف اليدوي. كما أنشئت مطبعة في التواهي لشركة بيكاجي قهوجي دنشوا وإخوانه سنة 1872م، وكانت إلى جانب طباعة أعمال الشركة، تطبع الجريدة الرسمية (Aden Gazette).
عدن- التواهي
عدن- التواهي

أما المطبعة التي أنشأها مناحيم عواد سنة 1891م ققد تخصصت في طباعة البطاقات البريدية، سبقتها شركة هوارد التي أنشأت مطبعتها قبل ذلك بعام، وكانت تطبع بالعربية والعبرية والإنجليزية.
عام 1939م كان العام الذي أدرك فيه أبناء عدن أهمية المطبعة ودور الطباعة في الحياة الثقافية والفكرية والأدبية وزيادة الوعي الثقافي الذي بدأ يظهر في المدينة ويتبلور تدريجياً، فأسس رائد التنوير محمد علي لقمان في عدن مطبعة فتاة الجزيرة في كريتر
وكان هذا تتويجاً للكفاح الذي خاضه الرجل منذ سنوات عندما أصدر كتابه الأول بالانجليزية، (هل هذه قصاصة ورق ؟؟) سنة 1923م وبالعربية سنة 1928م الذي ينتقد فيه نظام التعليم الهندي السائد في عدن حينذاك، ليطال نقده نظام الحكم والجهاز الحكومي عبر الكتابة في صحف عربية لعدم وجود صحافة في عدن في ذلك الوقت، مطالباً بحق العدنيين في انتخاب نوابهم في البرلمان، وأحقيتهم في الوظائف بدلاً من الأجانب، وبالحد من الهجرة.
وتلاه بكتابه الأهم (بماذا تقدم الغربيون؟) سنة 1932م
والذي دعا فيه العرب والمسلمين للأخذ بأسباب العلم والقوة حتى يلحقوا بركب الحضارة وينفضوا عن كاهلهم الجهل والتخلف، ويبدو أن مشروعه بإنشاء مطبعة فتاة الجزيرة كان ضمن هذه الرؤية نظراً لما للكلمة من أثر في تحفيز الهمم وبث الوعي، إذ سرعان ما أصدر في العام التالي سنة 1940م صحيفة (فتاة الجزيرة) التي لعبت دوراً الى جانب بقية الصحف التي صدرت بعد ذلك، في اتساع رقعة الحركة الأدبية والثقافية والسياسية.
مسجد الشيخ عثمان
مسجد الشيخ عثمان

الخطوة الأولى الجريئة التي أقدم عليها المحامي العدني الشاب، ألهمت وشجعت آخرين، فأخذوا ينشؤون المطابع ويصدرون الصحف، حتى بلغ عددها عام 1967م نحو أربعين مطبعة، وستين صحيفة ومجلة ما بين يومية وأسبوعية وشهرية.
من بين الأربعين مطبعة في كل عدن كان نصيب كريتر أكثر من النصف، 26 والتواهي 6 والمعلا 4 والشيخ عثمان 3 فقط.
عدن تقرأ..
وإلا ما احتاجت إلى كل هذه المطابع وكل هذه الصحف وكل هذه المكتبات، غير الكتب والصحف والمجلات التي تأتيها فور صدورها من القاهرة وبيروت ودمشق ولندن !
عدن تقرأ..
كتب.. كتب تطالعك من كل مكان، صحف، مجلات، عناوين، صور، أما الكتب الأولى فبقيت في الذاكرة، بعد أن أدت دورها التوعوي والثقافي. القراءة تقلص المسافات، أول كتاب في ذاكرة المدينة كان كتاباً دينياً بعنوان (النهر الفائض في علم الفرائض) أصدره مؤلفه عبدالقادر محمد المكي سنة 1886م، أتبعه في نفس العام بكتاب (الإيضاح في حقوق النساء وأحكام النكاح) أما كتابه الثالث فقد أصدره عام 1911م عن مبادئ الكيمياء.
عدن فاقت شهرتها الآفاق، والناس يأتون إليها من كل مكان، من الهند، أفريقيا، أوروبا، ومن فارس، ومصر، وبلاد الشام.
عدن - مسجد العيدروس
عدن - مسجد العيدروس

وعدن تاريخ وجغرافيا، قبل أن تكون ميناء وتجارة، ثمة حاجة لمعرفة تاريخ هذه المدينة العبقرية التي يتصارع الشرق والغرب على موقعها الاستراتيجي، عدن لا تذهب إلى البحر، البحر يأتي إليها، لا تعتدي على أحد هم يعتدون عليها، لكنها تعرف كيف تدافع عن نفسها، وكيف تلقن المعتدين دروساً في النضال والتضحية والنصر (قلائد الجمّن) هو الكتاب الذي أصدره المدرس في المدرسة الابتدائية الحكومية في كريتر الفقيه محمد عثمان سنة 1908م عن تاريخ عدن، أما جغرافية عدن فقد تولت لجنة الجغرافيا العدنية إصدار كتاب عنها وعن المناطق المجاورة لها عام 1932م، واختارت له عنوان (عدن وبلاد العرب) فيما صدر (قاموس الأمثال العدنية) سنة 1933م لمؤلفه عبدالله يعقوب خان، وتولى أحمد سعيد الأصنج التعريف بالجانب الثقافي للمدينة فأصدر كتابه (نصيب عدن من النهضة الثقافية في اليمن) في العام التالي.
أصبحت القراءة عادة يومية عندي، شغفاً يلازمني منذ الطفولة، ذات يوم وقع في يدي (همام في بلاد الأحقاف)، عندما كنت أبحث في مكتبة أخي محفوظ عن كتاب أزجي به الوقت، بعد أن بدأت إجازة الصيف الطويلة، هذه هي المسرحية الشعرية الأولى للأديب علي أحمد باكثير، مالفت نظري ليس المسرحية نفسها، ولا كاتبها، وقد تعرفت إليه أكثر بعد ذلك عبر قراءة معمقة لأعماله المسرحية والروائية التي اقتبست السينما المصرية بعضها، ولكن كون النسخة التي في مكتبة أخي طبعت في عدن عن مؤسسة الصبان هو مالفت نظري، وهي الطبعة الثانية، إذ أن الطبعة الأولى طبعت في مصر سنة 1934م، وصدر عن نفس المؤسسة الديوان الأول لصاحبها عبد القادر الصبان، كما وجدت في المكتبة نسخة نادرة من ديوان الأمير أحمد فضل القمندان طبع في مطبعة الهلال سنة 1937م، ورواية (سعيد) للكاتب محمد علي لقمان، وهي أول عمل سردي في اليمن والجزيرة، وقد أصدرته المطبعة العربية سنة 1939م، ولحمزة علي لقمان وجدت كتاب (من صميم الحياة) الصادر عن مطبعة فتاة الجزيرة سنة 1945م، وكان أصدر قبل ذلك مسرحية ليلة عيد، وترجم لشارلز ديكنز رواية (أرملة على قبر)، وفي مكتبة أخي وجدت ديوان الشاعر علي محمد لقمان (الوتر المغمور)، وكانت مكتبته تضم كل روايات نجيب محفوظ، ويوسف السباعي، وإحسان عبد القدوس، ومحمد عبدالحليم عبدالله، وجرجي زيدان، وروايات ودواوين جبران خليل جبران، ومسرحيات توفيق الحكيم، وعلي أحمد باكثير، وقصص يوسف إدريس، وغسان كنفاني وغيرهم الصادرة حتى ذلك الوقت من منتصف الستينات عن دور نشر مصرية ولبنانية اشتراها من مكتبات في عدن، بالإضافة إلى دواوين شوقي، وحافظ إبراهيم، وشعراء المهجر، وطائفة من الكتب السياسية، وروايات عالمية.
وللحديث بقية….
نقلا عن موقع صوت عدن

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى