ذات عدن … ذات زمن "9"

> محمد عمر بحاح

> هذا المساء تمنحني عدن مرتبة الإنسان، البحر، السماء، والقمر الكامل . سحر الأضواء، دوران المراكب، وهناك النجوم السائبة منذ الأزمان تطلق متعة التأمل.
مسجد العيدروس
مسجد العيدروس

وقد جمعنا تاجر هندي، في فناء منزله المطل على بحر التواهي .. كنا أبي وأنا، وثم ضيوف آخرين، وكونهم من جنسيات، وديانات مختلفة لم يمنعهم من تلبية دعوة الرجل، وأن يجتمعوا كأسرة، ويأكلوا من طعامه، ويشربوا من شرابه، وأن اختلفت اللغات واللهجات بصورة ما كانوا ذات عدن التي تعترف بالآخر . في ذات الزمن الذاهب إلى أقصى مدى نحو الإنسان … أول وجبة تناولتها في عدن خارج بيتنا، كانت في بيت تاجر هندي هندوسي، صديق لأبي .. في حافة البنيان في كريتر . والأحياء في عدن يومئذ بأسماء الجاليات التي تقطنها، فهناك حافة) حارة (اليهود، وحافة الهنود، وحافة البدو، وحافة الفرس،وحافة القطيع، وحافة العيدروس، كلها في كريتر . وحافة القريشة، وحافة دبع، وغيرها في الشيخ عثمان، وهناك مناطق بأكملها تقطنها الجالية الصومالية مثل القلوعة، وشيخ إسحاق، وحافون، وهم من أطلق عليها هذه المسميات وصارت علماً عليها، كان يقطن عدن جاليات فارسية، ومصرية، وشامية، وأوروبية . باختصار كان سكان عدن فسيفساء من شتى الأجناس، واللغات، واللهجات، والأديان، والثقافات، وكان هذا التنوع واحداً من أسباب قوتها، وتميزها . ليس التنوع وحده، بل التعايش معا في تعاون وانسجام وسلام . وليس الانجليز من اوجد هذا التنوع في عدن، بل كان موجودا قبل احتلالهم لعدن عام 1839م، وفي أول إحصاء أجراه الكابتن هينز، قائد الاحتلال كان سكان عدن من أبناء البلد، ومن الهنود، ومن الصوماليين، واليهود لكن أعداد السكان أخذوا في الازدياد مع توسع النشاط الاقتصادي والتجاري والسكاني لعدن، وانضم إليها عناصر أخرى من المحميات الجنوبية، ومن اليمن، ومن جاليات أوروبية . في أول إحصاء أجراه هينز كان عدد السكان 1289 نسمة وارتفع في عام 1842إلى 16454 نسمة، وفي عام 1849م إلى 19024 نسمة . كان عدد اليمنيين منهم 4896، والصوماليين 2896 والهنود8563، واليهود 1114 والاوروبيين 791، و 2452 نسمة من جنسيات مختلفة .
كل من يأتي إلى عدن عليه أن يحط رحاله، إنها دار سكن واستقرار منذ القدم، وهي ساحل بحر وفرضة، والموانيء والمدن الساحلية وجهة المسافرين والباحثين عن الرزق . والآن فان عدن التي أعلنها الانجليز ميناء حرة في عام1850م صارت إحدى أهم مراكز الملاحة والتجارة الدولية بين أوروبا والسواحل الإفريقية والهند والشرق الأدنى . فكان من الطبيعي ان تصبح عدن نقطة التقاء لمختلف الجنسيات من أوروبا والهند وفارس وشرق افريقيا، بأبناء البلد الأصليين ويشتركوا معا في صناعة التطور والازدهار الذي شهدته وبنته لبنة لبنة .
(2)
التجار الهنود، الذين ينتسب إليهم مضيفنا، أول من حطوا رحالهم في عدن، حتى قبل ان يعلنها الانجليز الذين كانوا يحتلون بلادهم أيضا، عدن ميناء حرا والهنود بطبعهم تجار وقوة عمل، ولديهم قرون استشعار لا تخطيء .
سنة 1840م، أي بعد عام واحد من احتلال انجلترا لعدن، وصل إلى عدن كيلي منشرجي، وبدأ نشاطه التجاري في تموين البواخر والسفن . كما وصلها سوارجي قهوجي، وبنى فندق الملكة أروى في التواهي . في العام 1843م يصل إلى عدن التاجر قهوجي دنشهاو وسرعان ما يصبح من كبار تجار المدينة وأعيانها . بعد عامين فقط تواجد التجار الهنود بكثافة في عدن، وعملوا في مجال البضائع، وامتلكوا المخازن الكبيرة فيها، وحولوا مركز ثقل النشاط التجاري من البر إلى البحر مع الساحل الافريقي المقابل وخاصة مع الصومال البريطاني، واحتكروا تجارة المواشي مع ميناء بربرة . كما بدأت شركة هندية باستخراج الملح سنة 1889م في كالتكس – جنوب الشيخ عثمان .
منذ سنة 1861، كان الهنود بأغلبيتهم المسلمة يشكلون أوسع جالية في عدن . وهناك أسباب لذلك . فقد جلب الانجليز كتيبة مشاة مستقرة إلى عدن، كما ان أول قوة للبوليس المدني تأسست في عدن سنة 1840 كانت مكونة من 12 من المسلمين الهنود، و 8 من الهندوس .وفي الإحصاء الذي أجراه الكابتن هينز عام 1849 , بلغ عدد الهنود من مجموع السكان البالغ نحو 19000، ( 8563 ) نسمة . الباحث الفرنسي لويس سيمونان له رأي في كثرة الهنود وخاصة المسلمين في عدن، ويعيده لأسباب دينية، حيث يتوقف فيها الحجاج الهنود في طريقهم إلى الكعبة وعند عودتهم منها، فيجدون في المدينة محطة مريحة وجذابة فينصرف كثير منهم للعمل والإقامة فيها . ومع ذلك فان جزء لا بأس به من الهنود في عدن من الهندوس والبانيان الذين يعملون في التجارة،في حين ان معظم المسلمين منهم يعملون جنودا او موظفين لدى الجيش البريطاني .
منذ أربعينيات القرن التاسع عشر، اكتسبت عدن بعض سمات المدينة الهندية التي تميزها عن باقي مدن الجزيرة العربية . في كتابه ( طريق الهند ) يقول بول موراند ان المسافر القادم من اوروبا لا يكتشف الشرق إلا عند وصوله إلى عدن . ويزيد على ذلك، فسوق عدن يقدم للمسافرين القادمين من أوروبا عينات – فاتحة للشهية – من عجائب الهند، ويسمح للعائدين بشراء مالم يتمكنوا من شرائه هناك، فقاعات البيع الكبيرة التي يمتلكها الفارسيون في التواهي تضاهي تماما الدكاكين الضخمة في بومباي .
(3)
الغربيون أيضا، كانت عدن محط اهتمامهم قبل احتلال البريطانيين وبعدها. وقد انحصر وجود الانجليز خلال القرن التاسع عشر على الجنود والموظفين وعلى عدد محدود من التجار الذين فتحوا في عدن فروعا لشركاتهم الضخمة، لكنهم كانوا يعززون وجودهم ويرسخون دعائم بقاء طويل الأمد بكل الطرق الممكنة .
أول الواصلين إلى عدن كان الكابتن لوك توماس الذي عمل وكيلا لشركة الملاحة الدولية P&O سنة 1840 وأسست فرعا لها سنة 1843 وكان اهل عدن يطلقون عليها البينو . وفي العام 1847 بدأ الكابتن لوك توماس العمل المصرفي في عدن باستلام وتوصيل الودائع المالية لجنود الحامية البريطانية مقابل عمولات بسيطة، وفي 1850 يفتتح البنك الخاص به . وبفضل وكلائهم الفارسيين، فان الانجليز كانوا في المرتبة الأولى بين التجار الغربيين .
في العام 1877 وصل إلى عدن السيد موريس رياس وأسس الشركة التي تحمل اسمه، وظلت متوارثة حتى عام 1970م وفي العام التالي وصل إليها السيد الفرد باردي، وأسس شركة باردي وبوفار وشركاؤه، وأصبح من كبار التجار فيها . ولم يكثف الفرنسيون وجودهم في عدن إلا بعد افتتاح قناة السويس وتأسيس شبكة خطوط الملاحة الفرنسية . وقد ازدهرت عدد من شركاتهم العاملة في عدن مثل فياني، مازاران، بارديه وشركة انتوني بس الذي وصل عدن سنة 1899 وعاش فيها إلى 1955، وغدا من اكبر واشهر التجار فيها وترك بصمة قوية في بناء معالم المدينة . وقد شيد المقر الرئيس لشركته على طريق العيدروس، بينما شيد سكنه على سفح جبل معاشيق . ومنذ نهاية ستينيات القرن التاسع عشر اسهم الفرنسيون في إنشاء الفنادق الكبيرة في عدن، ففي سنة 1867 افتتح تيان سويل فندق الكون الكبير في التواهي . ولم يقتصر النشاط التجاري على الانجليز والفرنسيين، فقد بدأت شركة ايطالية باستخراج الملح سنة 1885 في منطقة المملاح الواقعة بين خورمكسر والشيخ عثمان.
مسجد العيدروس
مسجد العيدروس

وكانت قد نشطت في عدن منذ العام 1877 بعثات قنصلية تمثل ألمانيا، هولندا، النرويج والسويد على مستوى قنصل . وبعثات على مستوى نائب قنصل لكل من ايطاليا، النمسا، المجر . وكان لفرنسا مندوب في عدن على مستوى مندوب نائب قنصل حتى ذلك الوقت . أما الحكومة الأمريكية فقد عينت التاجر الأمريكي المقيم في عدن المستر وليم كوكرمان قنصلا فخريا لها .
(4)
معجزة عدن، ليس في كونها مدينة قادرة على استقبال أجناس من شعوب مختلفة، ولا على تنظيم هؤلاء في سوق العمل، ولا على ان يشتركوا جميعا في صناعة نموها وازدهارها الاقتصادي والتجاري والثقافي في المحصلة الأخيرة بل في الإجابة على السؤال الفلسفي الذي يواجه كل مدينة من هذا النوع، متعددة الأجناس .. متعددة الديانات .. متعددة الثقافات .. متعددة الأعراق .. أنها إشكالية ليست كل المدن بقادرة على تحملها . وإذا كان هذا يحسب لها، فانه يحسب للمعنى الفلسفي الكبير للإسلام الذي لديه هذه الطاقة الاستيعابية الكبرى للآخر، وتقبل دينه وثقافته، وفي نفس الوقت للفهم الحضاري لتلاقح الشعوب والثقافات الذي جسده وجود قوانين مدنية تضمن حرية الأديان والعبادات، ووجود تقبل وتسامح من أبناء البلد الأصليين وهم بأجمعهم مسلمون .
ضمن هذا المفهوم، بنيت في عدن -كريتر – كنيسة سانت جوزيف، وكانت تحت إشراف الراهبات من البعثة الكاثوليكية . وذلك سنة1850، وكنيسة القديس سانت انتوني في التواهي سنة 1862 بإشراف المطران هاردينج . وكنيسة سانت ماري جاريسن سنة 1864 على الطراز الفيكتوري في كريتر. كما افتتحت كنائس أصغر في أوقات لاحقة في الروضة والبريقة .
ضمن المفهوم نفسه، بني المعبد الهندوسي شري تريشميري في شارع حسن في كريتر سنة 1862 وبعد عشر سنوات افتتح في التواهي المعبد الهندوسي الآخر شري رام جي . وبعدها بعشر سنوات اخرى اي في عام1882، افتتح المعبد الهندوسي هانومان في الشيخ عثمان .
ومثلما شيدت الطوائف المسيحية كنائسها ومعابدها، فقد شيد الفرس معبد النار في كريتر سنة 1883، بمبادرة من تاجرهم قهوجي دانشهاو، كما تم بناء (معبد الصمت) لدفن موتاهم فوق الهضبة المطلة على الصهاريج وعلى معبد النار .
وكان لليهود أيضا، معابدهم وكنيستهم ومدارسهم والحارة التي يسكنون فيها في كريتر حافة اليهود ففي سنة 1856، بنوا لهم في شارع السبيل بكريتر كنيس عدن الكبير . كما افتتحت في نفس المدينة سنة1911 مدرسة جورج الخامس للأولاد اليهود .
(5)
ليس الهنود وحدهم من جاء من المحيط الهندي واستوطن عدن . بل جاء من القوس الافريقي المقابل من البحر، أفواج من الصوماليين بتجارتهم من الأغنام، الجلود، اللبان، الأصباغ، الأخشاب . لم يكونوا بنفس القدر من الذكاء والخبرة التجارية التي يتمتع بها الهنود والفرس والأوروبيون، أو حتى التجار الحضارم، أو من تعز، فلم يبرز منهم تجار كبار ذوو شأن أو يؤسسوا شركات في عدن، واكتفوا بالعمل كوسطاء ( دلالين )
لكنهم استطاعوا الاندماج بسرعة في المجتمع العدني، واستوطنوا عدن منذ نهاية القرن التاسع عشر، خاصة في المعلا، وسمي جزء منها صومال بورا وأطلقوا مسميات صومالية حيث سكنت أغلبية منهم مثل : القلوعة، وحافون، وشيخ اسحاق . وطبعا لم يكونوا في حاجة إلى تشييد معابد لهم لأنهم مسلمون كما هم أهل عدن .
(6)
أظن ان الحضارم، كانوا قد سبقوا الجميع إلى عدن، ان لم يكن لأسباب تجارية فلأسباب دينية، أو للسببين معا . وهم غالبا ما يجمعوا بين الاثنين معا، وقد ذهبوا إلى شرق آسيا، وشرق أفريقيا تجارا وسعيا وراء الرزق، لكنهم عبر التجارة والأمانة صاروا من أعظم من نشر الإسلام في تلك الصقاع الشاسعة، وأعداد المسلمين اليوم يربو على المليارين .
والتاريخ القريب للحضارم يقول، ان ولي الله الإمام أبي بكر بن عبدالله العيدروس، قدم إلى عدن من حضرموت في 13ربيع الثاني سنة 890 هجرية1485م وتوفي فيها سنة 914 / 1508م، ودفن في الضريح المقام في مسجد العيدروس، وتقام له زيارة سنوية ليس في ذكرى مولده، أو وفاته كما جرت العادة، بل في ذكرى دخوله إلى عدن .
دخل الحضارم كمنافسين أقوياء، فهم أهل تجارة بالفطرة، وأهل أمانة بحكم الدين والأخلاق والتربية، وامتلكوا الوكالات التجارية والمخازن الكبيرة والمستودعات واشتهر منهم تجار كبار، كان لأسمائهم ثقل ووزن في السوق امثال : بازرعة، وباشنفر وباعبيد، والعمودي، والصافي، وال عقبة وفوق سيطرتهم على غالبية تجارة الجملة، فقد كان صغارهم الذين يسمونهم في عدن الشحارية، يسيطرون على تجارة التجزئة .. اي على الدكاكين والحوانيت التي تبيع كل ما يحتاجه السكان من الأغذية ومحتاجاتهم اليومية، او ما يعرف في عدن بـ (الراشن (اي بمعنى اخر كانوا يمسكون بجزء رئيس من تجارة عدن . ولم يكن ينافسهم في ذلك إلا التجار من تعز والحجرية، أمثال بيت هائل أنعم، والجبلي، وأولاد ثابت، والخامري، وبن عاصم المقطري، كما كان هناك تجار من آل شقاع وحبان .
(7)
كون مضيفنا من الهندوس، لم يمنع ان يكون على مائدته بالإضافة إلينا أبي وأنا، مدعوون آخرون من فرس، وبانيان، وصومال، وعدانية، وانجليز، وبهرة ، وجنسيات أخرى من المقيمين في عدن . وأظن ان المناسبة كانت عيد استقلال الهند . ولم يمنع اختلاف الجنسيات، واللغات، والديانات، والأعراق، من التقاء هذا الحشد في مكان واحد وتحت سقف واحد .. سقف عدن . وأن يتحدثوا بحرية وشفافية، وأن يمزحوا، ويمرحوا، ويضحكوا بلغة واحدة … العالم كله يقهقه حين يضحك، والضحك وحده لا يحتاج إلى ترجمة …الضحك لغة عالمية . وكان في الحفل أطفال بعمري، عرب، وهنود، وفرس، وانجليز، وصومال، ويهود … ونحن أكثر من غيرنا، كنا أكثر سعادة ومرحا وضحكا حتى الصخب .. نحن أكثر من غيرنا لم تكن بيننا، لا تجارة، ولا مصالح، ولا خصومات من تلك التي تحدث بين الكبار .. نحن كنا الشموس الصغيرة المدللة التي تتعلم الدوران في فلك عدن !!!!!
وللحديث بقية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى