حكايات جزء من اليوم

> يكتبها : علاء عادل حنش

>
 علاء عادل حنش
علاء عادل حنش
ذكرى استشهاد المُختار الـ 86 التي فاتتنا.. وموقف صديقي
بعد ليلة شاقة ذاق خلالها سكان المدينة عناء ارتفاع درجة الحرارة الذي يقابله انطفاءات مُتكررة للتيار الكهربائي، لكنها مرت كسابقاتها، فلا يتحرك أحد حيال هذه الأزمة التي فتكت بالشعب، استيقظتُ واستيقظ كلّ من في المدينة - بعد أن لم يذق أحد طعم النوم بسبب تلك الليلة - والجو حار، والهواء مُتوقف، والشمس حارقة وكأنها لعنة حلت علينا.
ما يهم.. هممتُ أتصفح دفتري الذي عنونته بـ“أهم الأحداث التاريخية”، حيث يوجد بين دفتيه عدد من التواريخ والأحداث، إلى جانب أهم الشخصيات التاريخية التي كان صيتُها يدوي المعمورة كلها، حتى أن العالم رفع لها القبعة إجلالًا واحترامًا، ولا يفوتني أن أوضح أن التواريخ المُسجلة في الدفتر مُتسلسلة حسب الأشهر الهجرية والميلادية.
فتحت صفحة شهر سبتمبر الجاري فوجدت أمامي عدة تواريخ بارزة، كان أهمها ذكرى وفاة الزعيم العربي المصري جمال عبد الناصر، الذي وافته المنّية مساء 28 سبتمبر 1970م، وذكرى استشهاد سيدنا عُمر بن الخطاب في 26 ذي الحجة 23 هجرية، لكن الذكرى القريبة والتي لم تفتني هي ذكرى استشهاد الزعيم العربيّ الليبي عُمر المُختار، ذاك الزعيم الذي صال وجال في صحراء ليبيا، وأبى أن يخضع للاحتلال الإيطالي حينذاك.
حينها فكرت أن أعدَّ تقريرًا، لكنني فوجئت بأنني لم أعرف من أين أبدأ، ومن أين انتهي؟! فلا الحافز ساعدني، ولا الوقت أسعفني، وهذان السببان كانا كافيين لأن يحولا دون شروعي بالكتابة، لترحل ذكرى المُختار دون أن أخط حرفًا، وتركتني مُنكسرًا حزينًا.
لم يكن الأمر بالهين، فالعالم أصبح يعيش في عصر السُرعة، فلا الهواتف الذكية تدع لك شأنك، ولا متابعة مواقع التواصل الاجتماعي تركتك وشأنك، والأدهى الواقع المأساوي المُحيط بك، لكني أتعجب من عدم سماعي لأي فرد من أفراد وطني تحدث عن ذكرى استشهاد المُختار! وكأنها لم تأتِ، وليس وطني فحسب، فالعرب أجمع غفلوا عنها، وكم تنتابني الدهشة والحيرة من تناسي وتغافل الأشقاء الليبيّون للذكرى، فلم أسمع أن هناك تحضيرات في ليبيا لها إلا إذا كان بالخفاء، وهذا مُستبعد.
حلّ المساء، وهدأت المدينة من ضجيج السيارات، وأصبحت الشوارع فارغة من المارة، لكن مواقع التواصل تشتعل وتعُج بالنقاشات غير المفيدة - إلا من رحم ربي - والتعليقات الجارحة، ولم يخطر ببال أحد أن يقلب صفحات التاريخ ولو لبرهة ليتحدث أن السبت الذي سيحل بعد يومين سيُصادف الذكرى الـ86 لاستشهاد عُمر المُختار، فيا للعجب!
قعدت في ذلك المساء أبحث عن إجابات لهذا التغافل الكبير لعظماء العرب، اولئك العظماء الذين صالوا وجالوا في ميادين المعارك ضد أي احتلال يطال وطنهم.. اولئك الذين لم يخضعوا قط لأي إغراءات مادية عرضها الاحتلال لهم لقاء الكف عن مقاومتهم ومجابهتهم.. الذين فضلوا الاستشهاد على الاستسلام وفعلًا استشهدوا وهم مرفوعو الرأس، شمخاء، عزيزي النفس؛ ولذلك خلدّتهم كُتب التاريخ في أنصع صفحاته الذهبية، وهذا بديهي.
حينها قررت قراءت قصة أسر المُختار واستشهاده - وربما البعض منكم قرأها- وكيف انهالت عليه عروض الإيطاليين، وبوساطة من بعض الخارجين عن الوطنية من الليبييّن، الذين عرضوا أن يحظى براتب شهري، وقصر يعيش فيه، وأن يطلقوا سراح أهله، لكن المُختار وبشموخ الكبار رفض كل الإغراءات، وكان عازمًا على أنه لن يظل الاحتلال في وطنه، وفعلًا ظل يقاوم الطائرات الإيطالية، والجيش المُدجج بالدبابات والأسلحة المُتطورة حتى وقع في الأسر حين سقط من على حصانه في وادٍ اسمه “الجريب” - بالتصغير - الذي يوجد في الجبل الأخضر، وهو وادٍ صعب المسالك، كثير الغابات في إحدى المعارك ضد الإيطاليين، والتي كانت آخر معارك المُختار.
قرأت في مذكرات القائد الإيطالي رودولفو غراتسياني بأنهُ تم إحضار المُختار إليه فظل يسأله ويسأل، ويود لو أن المُختار يقتنع بالعمل لديهم لقاء أن يحصل على مُرتب ومسكن، لكنهُ رفض وفضل حبل المشنقة.. فهل سمعتم يا عرب؟ يُعرض على المُختار كل ذلك وهو مأسور مُكبل اليدين والقدمين فيفضل حبل المشنقة، فيا عجبي!.
وبعد حديث طويل بينهما سأل غراتسياني المُختار بقوله “كم يومًا ستحتاج لترتيب استسلام رجالك؟” فكان رد المُختار بمقولته الشهيرة “نحن لن نستسلم.. ننتصر أو نموت ولا تظن أنها النهاية، سيكون عليكم أن تحاربوا الجيل القادم والأجيال التي تليها، أما أنا فإن حياتي ستكون أطول من حياة شانقي”، أما حين سأله عن السلاسل التي كبل الإيطاليون قدميّ ويديّ المُختار “أهذه السلاسل مُزعجة؟” فرد عُمر المختار “إنها واقع مُزعج”، ومع إصرار المُختار على عدم التنازل عن الدفاع عن وطنه مُقابل المال قرر غراتسياني الحكم عليه بالإعدام شنقًا أمام شعبه - والذي لم يأتِ إلا بعد اعترافه بشجاعة المُختار - ولذلك طلب أن يُلتقط صور لعُمر بداعي أنهُ يحتفظ بصور خصومه في سجل أعدائه.
ويعرف الجميع أن أي احتلال يقوم بفتح محكمة ليحاكم من يخالفه ويقاتله لا تُمثل قيد أنملة من العدل، فهي فقط واجهة أمام العالم، وهو ما حدث مع عُمر في محكمة طرابلس وبرقة التابعة للإيطاليين، ورغم ذلك أظهر المُختار إبان محاكمته الشجاعة العربيَّة الأصيلة، فكما يقول غراتسياني في مذكراته “لم يحاول أن يتحايل بأي سؤال طُرح عليه، وكان يرد بكلّ صدق”، نعم فعُمر لا يعامل البشر وإنما يعامل رب البشر. هكذا أثبت المُختار للعالم قوة إيمانه وشجاته وعنفوانه التي لم تتزحزح من قلبه.
وقرأتُ أيضًا بأن حُكم الإعدام أُصدر مساء الثلاثاء 15 سبتمبر 1931م في بنغازي، ونُفذ في صباح الأربعاء بحضور ما يقارب 20 ألف نسمة، حسب غراتسياني - وتحديدًا في الحادية عشرة ظهرًا، وقيل التاسعة صباحًا - 16 سبتمبر 1931م، في بلدة سلوق جنوبي مدينة بنغازي، ليخسر العرب بطلًا لن يعوض.
اليوم نعيش ذكرى استشهاده الـ86 التي تُصادف السبت 16 سبتمبر 2017م، فرحمة الله تغشاه، ورحمة الله عليه، فقد خلّد لنا نضالًا نستمد منه العزيمة.
بعد الانتهاء من قراءة ذلك، والليل بدأ ينجلي ليعود لاحقًا وليحلّ النهار محله الذي مؤكدًا سيعود فيه ضجيج السيارات، وتمتلئ الشوارع بالزحام الذي يخنق المدينة رغم شحة المواد البترولية! التقيتُ صديقا لي فحدثته عن ذكرى المُختار التي فاتتنا، فانصدمت لرده عليَّ بقوله “أما زلت تذكر هؤلاء الذين تواروا عن الحياة منذ سنين طويلة؟ عليك أن تعيش حاضرك”، حينها لم تفتني فرصة الرد فقلت “مؤكد أنني سأعيش حاضري، لكنني لا أستطيع إهمال ماضي العرب، والذي هو ماضينا، ويجب أن نفخر به”، نظر لي نظرة تحمل السخرية والازدراء، ومضى في طريقه؟!.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى