ذات عدن… ذات زمن (12)

> محمد عمر بحاح

>
محمد عمر بحاح
محمد عمر بحاح
لولا الامتداد المكاني للشيخ عثمان لظلت عدن رغم جمالها الاسطوري مدينة محصورة بين الجبل والبحر . ولغدت من المدن المكتظة والمختنقة بالسكان لا يطاق العيش فيها . ولأن البريطانيين الذين احتلوا عدن ، منذ العام 1839م اصحاب تفكير استراتيجي بعيد المدى ، ويخططون لبقاء طويل الأمد ، كان لابد لهم من مد عيونهم لما وراء الافق ، ليس فقط بسبب الحاجة للتوسع العمراني الذي تفرضه حاجات النمو المتزايد للسكان ، بل للضرورات والحماية الأمنية .
ًالمدن ليست حجارة وبيوتا واسمنت . المدن تذكرك بماض يبتعد كلما اقتربت منه على حد تعبير الشاعر العراقي الذي عاش فترة في عدن عبدالكريم كاصد . في بداية القرن السابع عشر كان الحي مزارا دينيا للولي المدفون فيه والذي سميت المدينة باسمه الشيخ عثمان . المؤرخ العدني حمزة لقمان يذكر ان المدينة ، كان اسمها الشيخ الدويل ، وترجع التسمية نسبة الى الشيخ عثمان بن محمد الوكحي الزبيري المدفون في بقعة مواجهة لقرية الشيخ دويل . وكانت هي المدينة الأصلية قبل أن ينالها التوسع والعمران حتى اصبحت بصورتها الحالية اليوم . الرحالة الانجليزي هنري سلت الذي زار المدينة في عام 1809 للميلاد في طريقه الى لحج وصفها بأنها غابة كثيرة الأشجار تقوم بجانب القرية قبة الولي ، وتمتد مساحات خضراء عشرات الكيلومترات مراعي
للأغنام والجمال التي كانت تشاهد فيها بكثرة !! كانت هذه تخوم عدن .. الامتداد الطبيعي لسواحل البحر .. ذلك القفر الذي اقتعده الشاعر الكبير محمد سعيد جرادة ذات أصيل شفيف مع حبيبه ، والذي أتقن وصفه في أغنيته الرائعة ( وقفة ) من ألحان وغناء الفنان محمد مرشد ناجي .
(2)
الشيخ عثمان ، مدينة قابلة للامتداد على عكس كريتر، المعلا ، والتواهي . في البدء كانت عدن مدينة خرجت منذ الخليقة من البحر .. كانت هي الميناء والحاضرة والثغر ، منذ العام 1847م بدأ الانتقال التدريجي من ميناء كريتر ، الى مينائي التواهي والمعلا . كانت عدن تمتد وتمتد نحو السواحل المجاورة لها . وسكانها في ازدياد ، بلغ عدد سكانها عام 1872 قرابة العشرين الف نسمة . وكانت الاشارات تشير الى نمو في السكان بسبب التطورات القادمة بسرعة ، وأهمها افتتاح قناة السويس ..كانت موعودة بنمو اقتصادي وتجاري بسبب موقعها الاستراتيجي التاريخي ، والان ازدادت هذه الأهمية بفضل افتتاح قناة السويس في عام 1872…
انه الزمن يتسارع ، ولا يمكن الانتظار . اشترت السلطات البريطانية عدن الصغرى (البريقة) من شيخ العقارب عبدالله حيدرة سنة 1869 ، وألحقتها بمستعمرة عدن ، لكنها لم تستكمل عملية شراء الاراضي الممتدة من شبه جزيرة عدن الى شبه جزيرة البريقة الا في عام 1887 ، وفي العام التالي وقعت عقد شراء البريقة من الشيخ مهدي حيدرة شيخ العقارب . وكانت قد اشترت الشيخ عثمان وخورمكسر من سلطان لحج عام 1882 ، وكان اول ما أقدمت عليه افتتاح مدرسة حكومية في نفس العام ، ومعبد هندوسي، وأعطت حق استخراج الملح لشركة ايطالية بين خورمكسر والشيخ في المنطقة المعروفة بالمملاح سنة 1885 ، وهي نفس السنة التي قام فيها السيد كيث فولسكر بدعم الكنيسة الاستكلندية ببناء مستشفى صغير في الشيخ عثمان . ما أن جاء العقد الأخير من القرن التاسع عشر حتى توسع العمران في الشيخ ، وانتقل اليها العديد من الساكنين بسبب توفر المياه وهوائها المعتدل خاصة أثناء الليل ، كماقام بعض أغنياء عدن بانشاء بساتين وبرك سباحة فيها ، ومنازل صيفية .
(3)
في بداية القرن العشرين 1900م، توفي ودفن في الشيخ عثمان السيد هاشم بحر (الهاشمي) وصار ضريحه مزارا من أشهر وأهم المزارات السنوية في عدن ينافس زيارة العيدروس . وبني بقرب ضريحه مسجد سمي باسمه مسجد الهاشمي، كذلك سميت الحارة التي يقع فيها والضريح بـ(حافة الهاشمي) . يعتقد كثير من الناس ان المسجد بناه هاشم بحر ، لكن الحقيقة ان الذي بناه هو علي حاجب احمد في اول محرم سنة 1325 هجرية ، واسمه مدون في سقف مئذنة المسجد ، لكن حتى هذا الدليل الوحيد اختفى بعد ان تم هدم المسجد القديم وبني مكانه مسجد جديد ، ضمن حملة محمومة لتغيير المعالم التاريخية لمدينة عدن ، طالت اقدم مساجدها ( مسجد ابان ) واسماء المدارس والاحياء بعد حرب صيف العام على عدن والجنوب عام 1994 ، وللأسف شارك فيها رجال أعمال بمبرر فعل الخير ، لكن هذا الخير كان يمكن ان يصيب محله لو بنوا جوامع جديدة ، ومدارس ومستشفيات وعندهم من الخير الكثير ، وكثير منه بعد رزق الله كان بفضل عدن !!!
أضحى ترددي على مسجد الهاشمي عبادة كل جمعة حيث كان أبي معجباً بخطيبه الشيخ عبد الله حاتم بصوته المزلزل وهو يدعو بزوال الاستعمار والحكام الظالمين ، وبالنصر لجمال عبد الناصر وكان ابي يحبه شأن كل الناس في عدن والعرب في كل مكان . كما أضحت زيارة الهشمي كل عام عادة واستذكاراً واحياء لذكرى هاشم بحر ، وان كان لا احد من الزوار يعرف قصته على وجه التحديد !!
وكنت كطفل برفقة أبي أفرح بالزيارة ، ومايرافقها من مظاهر احتفالية ، ومن اجواء فرائحية ، من اناشيد دينية ، ورقصات شعبية ، ومساجلات شعرية ، حتى ان شعراء مشهورين كانوا يأتون من حضرموت خصيصا لزيارة الهاشمي ، للاشتراك في تلك المنافسات ، منهم شعراء من بلدتي الديس الشرقية ، ومن بلدة أمي غيل باوزير . لكن السؤال الذي ظل يلاحقني بعدأن كبرت قليلا : من هو الهاشمي .. أو هاشم بحر ؟ كما عرفت فيما بعد انه اسمه !! كانت جدتي تأخذني وانا أصغر عمرا الى زيارة ولي اسمه حاج موسى ،
لكن ذلك الولي كان قبره وسط غابة كثيفة من الأشجار ، ولم يكن له ضريح اوقبة كقبب الأولياء ، ولا زيارة موسمية ، كان على طريق قرية جدتي ، فكنت امر عليه كلما ذهبت لزيارتها. وكان قبره يحاذي مجرى السيول ، ومن غريب مارأيته في واحدة من تلك المرات ان مياه الأمطار والسيول كانت تتدفق عارمة من حوله دون أن تقترب من قبره !!! وكانت جدتي تحكي لي قصصا كثيرة عن معجزات حاج موسى ، وكنت أصدقها في غاية الطفولة ! اما هاشم بحر ، فلم اسمع أن له معجزات كتلك التي يتداولها الناس في عدن وغيرها عن العيدروس .
في الثامن من ابريل 2008 انعقدت في القاعة الكبرى بكلية التربية العليا في خورمكسر ندوة سؤال المكان في السرد ، ضمن مهرجان عدن الثقافي في دورته الثالثة – عدن المكان والصوت تحدث فيها عدد من دكاترة واساتذة جامعة عدن والمعنيون بالسرد. وكان من ضمن المتحدثين أ.د علوي عبدالله طاهر . وقد قدم بحثا عن كتابات الرحالة الأجانب عن عدن.
ومما ذكره ، ان هاشم بحر كان غواصا في التواهي ، ويبدو ان الناس سموه هكذا لاشتغاله بالبحر ، لكن لا اعرف اذا كان اللقب قد الصق به في حياته اوبعد موته كنوع من اضفاء القداسة عليه ، خاصة انه هاشمي ينتسب الى أهل البيت عليهم السلام ؟! ومن مآثره في حياته والتي ذكرها د. علوي طاهر انه تصدى مع عدد من وجهاء الشيخ عثمان للسلطات البريطانية عندما أقامت في اطراف المدينة بيوتا للدعارة، وجلبت اليه بغيّاً من بعض مستعمراتها الافريقية ، وذلك من اجل جلب المتعة لجنودها الذين سبق وأقامت معسكرا لهم في الشيخ عثمان . لكن الذي حدث ان بعض المواطنين من الشباب صاروا يرتادون تلك البيوت مما أثار حفيظة وغضب السيد هاشم بحر ورجال المدينة ، لأسباب دينية وأخلاقية . الذي حدث ان هاشم بحر وهو الغواص الماهر وجد غريقا في البحر وأعلن موته .. مات في حادث غامض لم تعلن تفاصيله ، ولم يوجه فيه اتهام لأحد ! هل غرق بفعل فاعل ..ام كان موته أمرا طبيعيا لا دخل فيه لأحد ؟! كان الحادث مفجعا ، وقد تقبله الناس الذين احبوا الرجل لغيرته على الدين والأخلاق ، دفنوه ، وبنوا عليه ضريحا ، وبنوا مسجدا باسمه ، وأقاموا له زيارة سنوية في ذكرى موته ، ومع تقادم السنين بقيت الزيارة .. والذكرى .. لكن مأثرته الحقيقية لا أحد يتذكرها من الناس الذين يحتفلون كل عام بزيارة الهاشمي ، كحارس للفضيلة !!!!!
(4)
القرية الصغيرة التي كان اسمها الشيخ الدويل ، لم تعد كذلك .. صارت مدينة تتسع وتمتد . فيها مدارس ، مستشفيات ، وخط قطار ، وكلية للدراسات العليا ، ومساجد ومعابد للهنود ، واليهود ، وكنائس للمسيحيين ، ومصانع صغيرة للاقمشة ، وكهرباء ، وأندية ثقافية ورياضية ، وكشافة ، ودور سينما . ومطاعم ومقاه ، وحوانيت ، وطرق معبدة ، وسيارات الى جانب الجمال ، ومعسكر للجيش العربي ، ومكتبات ، ومطابع ، ونشأت احياء وضواح ومدن تعتبر امتدادا لها، مثل القاهرة ، المسبح ، دار سعد ، والمنصورة . وصارت العمق الطبيعي لعدن واحيائها الجديدة ؛ المعلا والتواهي ، والروضة .
هكذا تنشأ المدن الجديدة . لم تنشأ الشيخ عثمان عشوائيا بل بتخطيط مدروس ، واستوعبت الكثافة السكانية المتوقعة ، لان كثيرا من ابناء المناطق المجاورة ، ومن اليمن ، ومن الهند والصومال وغيرهم من الجنسيات الاوروبية ، صارت وجهتهم عدن ، درة مدن الجزيرة والخليج بحثا عن فرص عمل ، وتحقيق حلم الثروة وتكوين الذات .. ولم تكن قد ظهرت بعد مدن النفط في الجوار …..
(5)
انطوت الصحراء والقرية الصغيرة ، صارت مدينة كبيرة . في عام 1910، افتتحت كلية عدن في نمرة 10 في الشيخ عثمان ، كأول كلية للتعليم العالي ، وكانت تبعث خريجيها الى الخارج لاستكمال دراساتهم العليا .
العام 1915، اضطرت القوات البريطانية للانسحاب من الشيخ حتى يتنجنبوا الاحتكاك بالجيش العثماني بقيادة علي سعيد باشا المتمركزة في لحج . كان هذا الانسحاب شديد الوطأة على تجار المدينة ، اذ فرض احد فتوات المدينة سيطرته عليها واسمه ( بن تيشة )
وحدثت فيها اعمال نهب للدكاكين وعمليات قتل لبعض اصحابها، لكن ذلك لحسن الحظ لم يستمر غير يوم واحد ، اذ دخلت القوات التركية المدينة في السادس من يوليو ، بعد انسحاب الانجليز منها بيوم واحد فقط !
في الاول من يناير 1916 ، أفتتح خط القطار بين المعلا والشيخ عثمان . وفي ابريل من نفس العام استعادت القوات البريطانية الشيخ عثمان من الاتراك .
بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى ، ظهرت معامل للثياب القطنية في كود بيحان ، وصناعة الانسجة القطنية في حافة دبع ، وذلك في عام 1917 . في 1923 تأسس مستشفى الجذام ، وفي 1925 تأسست اول مدرسة اهلية للبنات في المدينة ، وكانت تعلم القران الكريم والقراءة والكتابة والحساب والخياطة . ولم تفتتح مدرسة حكومية لتعليم البنات في الشيخ الا في ابريل 1937.
دخلت خدمة الكهرباء الشيخ عثمان سنة 1935 ، بعد بناء محطة حجيف البخارية لتوليد الطاقة الكهربائية بتسع سنوات ، وفي 1927 حفرت بئران ارتوازيان في الكمسري لتزويد عدن بالمياه العذبة.
(6)
لا يمكن اكتمال بناء المدينة بدون جانبها الثقافي والروحي . كان ثم حاجة لانشاء أندية ادبية ورياضية ، ودور سينما ، لتلبية حاجات السكان الجديدة ، ولتقوم بدورها في بث الوعي لا لمجرد التسلية والترفيه ، وان كان هذا ايضا من حق الانسان . 1927 تأسست فرقة كشافة عدن في الشيخ بقيادة الاستاذ محمد صالح عفارة ، وبعدها بعامين تأسس نادي الأدب العربي برئاسة الأستاذ عبدالمجيد محمد سعيد الأصنج ، وفي منتصف الثلاثينات انشأ نادي الاصلاح العربي في الشيخ مدرسة ابتدائية أدارها ودرس فيها الشيخ احمد عوض محمد العبادي . وتأسس 1939 نادي الشبيبة المتحدة ( الواي ) الذي غدا من أقوى واشهر اندية كرة القدم في عدن .
في اواخر الثلاثينات وأوئل الأربيعينيات افتتحت داران للسينما في الشيخ ضمن دور السينما التي افتتحت في كريتر والمعلا والتواهي . وفي عام 1940 افتتحت الحكومة مكتبات تتبعها في كل من كريتر ، المعلا ، التواهي ، وكان نصيب الشيخ واحدة منها . وفي نفس العام بنى رجل الأعمال الفرنسي توني بس مدرسة للبنات في الشيخ عثمان وأهداها للحكومة، وتولت ادارتها التربوية القديرة السيدة نور سعيد حيدر .
عندما دخلت الشيخ عثمان طفلا يتعثر في أثر ابيه ، كانت المدينة في اوج ازدهارها التجاري والعمراني وتزحف نحو مناطق جديدة ، بينما كنت ازحف نحو عالم الفتيان واخاف ان افقد طفولتي فلا أجدها عندما أبحث عنها ذات يوم !!
وللحديث بقية …..
نقلا عن موقع "صوت عدن"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى