حكايات جزء من اليوم

> يكتبها : علاء عادل حنش

>
علاء عادل حنش
علاء عادل حنش
بالقراءة ننهض ونجتاز المحن
الخميس الفائت أبلغني صديق بأن معرضًا لبيع الكُتب سيُقام في منارة عدن، فسررتُ لهذا النبأ، فالواقع لا يحتمل المزيد من تعقيدات الحياة، وأصبحت الحاجة مُلحة لأن يتوجه الجميع صوب القراءة التي هي نتاج التعليم، ودونها لن نرتقي، بل إننا لن نخرج من الواقع المأساوي المُسيطر علينا.
الساعة الرابعة مساء الخميس، الشمس تبدأ بالغروب والقمر يهرول رويدًا ليسيطر على الأجواء، لكن لا مفر، فالمؤكد شروق الشمس في اليوم التالي - بإذن الله - فيما هممتُ بتجهيز نفسي، وكنتُ حريصًا كلّ الحرص على عدم التأخر عن الرابعة عصرًا، فكما أقول غالبا: “وعدك هو قيمتك”.. لكن هذا لا يعني عدم وجود معوقات أو التزامات تجبر أي شخص عن التأخر أو الاعتذار عن أي موعد، وهذا بديهي.
هممتُ بالخروج.. المدينة هادئة على غير العادة، فالمُعتاد أن هذا الوقت هو وقت تعُجّ فيه المدينة بالزحام والضجيج، ولكنني سمعت بأن سعر أسطوانة الغاز الواحدة وصل إلى 5000 ريال، وإن انطفاءات الكهرباء عادت اسوأ مما كانت، وإن المشتقات النفطية تأتي تارة وتختفي تارتين، وإن الوضع كلما تحسن قليلًا عاد للأسوأ، لكن هل هذه مُبررات لأن يختفي الزحام ويتلاشى الضجيج عن المدينة؟، لا أعتقد ذلك.. لكنني أستطيع أن أجزم بأن أحداث هذا المساء جاءت لتجمعني بشخص تعرفت عليهُ منتصف سبتمبر 2017، وكان للصدفة دورها الكبير.
وصلت منارة عدن، الكتب تملأ الطاولات القليلة، لكن لا بأس، المهم توجد كُتب ليقرأ الناس.. فور وصولي وجدتُ عدة أصدقاء، لكنني لم أرَ من جئت لأراه، انتظرت.. الوافدون في تزايد.. الدقائق تمر سريعا ولا جديد.. التقطتُ بعض الصور للكتب وللزائرين وهم يحدقون بأعينهم نحو الكتب، وأنجزتُ تغطيتي الكاملة، لكن لا جديد بشأن من انتظره.
اكتمل مرور ساعة، فعزمت على الاتصال به للاطمئنان عليه، لكن الهاتف يرن ولا احد يجيب، فقلت لعلها مشيئة الله لم تشأ اللقاء به.. فكرتُ بأن أرى أهم الكتب المتواجدة، فلقد حثنّي العديد من الأصدقاء على ضرورة قراءة رواية “مائة عام من العزلة” للروائي الكولمبي غابرييل غارسيا، وفعلًا وجدتُها.. ومع خضم نشوتي بالحصول على الرواية، يدخلُ ملاكًا باب المنارة، فامتلأ المكان بالأنوار من نور وجهه، وشعّ بريق إنسانيته، وتزين معرض الكتب بحضوره، وفعلًا جاء من كنت أنتظره.. لكن ماذا أصابني؟ لا أستطيع مواجهته، وتظاهرتُ بأنني لم أره وتوجهت إلى آخر الطاولة الممتدة على ساحة المنارة، وحين وجهت نظري إليه اكتشفت بأنهُ يراقبني ويحدق النظر بي، وظل يصوب عينيه نحوي، فهرولت صوبه مُسرعًا ودون أي شعور، وأنا أرى عينيه السوداويتين تُزينان وجهه الساطع بياضًا، مع تلك القامة الرشيقة متوسطة الطول واليدين الفاتنتين المرسوم عليهما إحدى أدوات التجميل التي لا يحضرني اسمها!!
اقتربنا من بعض، وبدأ الحديث الممزوج بالإعجاب، وصوت كلينا خافتًا، ولا أعلم لِمَ عاتبته عن التأخر وعدم رده على الاتصال، ولكن ما كان ليحدث العتاب إلا ليكون مدخلًا للحديث، وفعلًا حدث ذلك.
تهاوى لساني بطرح عدة أسئلة، وكأنني في قاعة امتحان، لكن الغريب عدم اعتراضه أو تلميحه بجدوى هذه الأسئلة، وكم سررتُ بذلك التجاوب، لكنهُ ولدّ أسئلةً عدة في ذهني لم أطرحها حينها خشية الإكراه.
بدأ المكان بالامتلاء رويدًا رويدا، وكان عدد الشباب الزائرين يتزايد بين الحين والآخر، لكن ليس بالعدد المأمول، وبدأ الليل يبسط أجنحته على أرجاء المكان، وحديثي مع الملاك مستمرًا غير تلك التدخلات التي تأتي من هنا وهناك.
ولا أعلم هل شهرته وصلت لهذا الحد، أم إنسانيته البهية؟ فلم نلبث أن أكملنا جملة واحدة في حديثنا، وكانت تضايقني تلك المداخلات في الوقت الذي لم أرَ أي بوادر الانزعاج من الطرف الآخر (الملاك)، وهو الحال الذي استمر طويلًا.
فجأة يُطل صديقي مُطلق من باب المنارة، ودخل ولم يرني ولكني رأيته، فأحببت مداعبته باتصال سريع وأغقلت الخط، وحينها التفت فرأني، وتسالمنا.
مرت دقائق وتارة يدخل زائر جديد وتارة يُغادر زائر، لكن إجمالي الحضور كان يستدعي السرور، فكل من حضر معرض الكُتب حضر ليحصل على كتاب معين، وهذا يكفي!
قعدنا أنا وصديقي و(الملاك) في كراسي بيضاء على باحة ساحة المنارة، وتبادلنا أطراف الحديث، وتحدثنا عن الكتب، وأهمها، وحينها فز مُطلق ودون مقدمات تذكر، وقال “لديّ كتاب سيُغير من حياتك علاء!”،
أي كتاب تقصد؟، فقال “تعال.. تعال”، فقلت له “لا أريد أن تتداخل عليَّ الكتب يا صديقي، فيكفي حصولي على رواية غابرييل غارسيا”. ففز واقفًا وقال “سأهديك إياه”. وفعلًا ذهب ليحضر الكتاب، وأنا و(الملاك) صامتان متفاجئان، لكن سرعان ما عُدنا لحديثنا السابق، وعدت لطرح أسئلتي البايخة ولكن (الملاك) ظل يرد دون أي تماطل أو تأخير.
وما هي إلا دقائق حتى جاء مُطلق وهو منهك من مزاحمته للزائرين وأعطاني كتاب عنوانه “الراهب الذي باع سيارته الفيراري” لروبن شارما الذي يُعد أحد أبرز خبراء القيادة والأداء الرفيع وضبط النفس في العالم. وضع مُطلق توقيعه على هديته، وأي هدية!، فهي أثمن هدية أحصل عليها خصوصًا أنها جاءت من صديق عزيز. بعدها دار حوار حول بعض الكُتب، وعن ترتيبات معرض الكتاب، ومعه هرول الوقتُ مُسرعًا ولم نشعر به، فقد نسينا أنفسنا، بعدها قام ذاك (الملاك) يتحدث مع شخص آخر، فوجدت نفسي وحيدًا لا أعرف أحدا، حيث كان مُطلق قد ذهب ليجري اتصالًا ما، فعزمت على النهوض والبوح له عما في كينونتي، فوجدته منشغًلا بالحديث العادي مع أصدقائه، فيما الزوار منهمكون بجمع الكتب ولم يتح لي أحد فرصة البوح والتحدث بطلاقة، لكن الفرص القادمة ستكون أفضل.
بعدها.. عزمت أنا وصديقي مُطلق على الرحيل ولم تفتنِ فرصة توديع ذاك (الملاك) بل وأخذت وعد بأن نلتقي مجددًا. افترقنا أنا ومُطلق عن بعض وصعدتُ الباص وكان شوقي كبيرا لتصفح الكتابين اللذين معي، فبدأت بكتاب شارما، وقرأتُ مقدمته، وأنا أقرأ فاجأني شاب يجلس في الكرسي الخلفي يقول لي “من أين اشتريت الكتاب؟” فقلت له “من معرض الكتاب”، فقال “هل سيستمر؟” فأجبته “نعم”، فقال “خذ رقم هاتفي وأعلمني متى، وإذ ما كان هناك معارض آخرى فأنا أُحب القراءة”، فأخذت رقم هاتفه وحينها سررتُ كثيرًا لتفاعل وولع هذا الشاب بالقراءة، وأدركت بأننا نسير رويدًا رويدا نحو الخروج من واقعنا المزري، وإنه لابد أن ينبلج هذا الكابوس الوخيم الذي أصاب المدينة بالشلل الفكري والعقلي والثقافي الذي سبّبه العزوف الكبير عن القراءة والتعليم اللذان إن لم نهتم بهما فلن نصحو من ذلك الكابوس. فما تقدمت الأمم والشعوب إلا باهتمامها بالتعليم الذي هو نتاج القراءة. ويجب أن يدرك الجميع مدى أهمية القراءة في رفع الوعي المُجتمعي والتطور العقلي والاخلاقي والثقافي، وفي نهوض البلاد والوصول بها إلى بر الأمان. وصلت المنزل وبدأت بالغوص في أعماق كتاب شارما.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى