حكايات جزء من اليوم

> يكتبها : علاء عادل حنش

> !استدعاء الماضي
بعد أن اشتد المرض بي، وأجبرني على عدم القدرة على التحرك بحريةً مطلقة، وممارسة حياتي كما أشاء، فاضطررت إلى أن أبقى طريح الفراش حبيس المنزل لثلاثة أيام متتالية، وكنت مستاءً لذلك الوضع القهري، فأنا معتاد على الذهاب كل يوم إلى عملي وإلى كليتي، لكنها مشيئة الله، والحمد لله على كل حال.
علاء عادل
علاء عادل

اكتشفتُ بعد يوم واحد وأنا حبيس المنزل بأن هذا الوقت القليل كان كفيلًا بأن يعود بي عدة سنوات إلى الوراء.. وكم استغرب ممن يقول بأن للماضي ذكرياتٌ مؤلمة.. وكانت تلك الثلاثة الأيام ممتعة، فقد عدتُ لسني دراستي الابتدائية والأعدادية والثانوية، وقلبتُ صفحات الماضي الجميل الأليم، فليس كل ماضٍ أليم، وليس كل ماضٍ جميل، هكذا هي المعادلة يا رفاق!.
كانت مكتبتي المنزلية تعُجّ بالفوضى، ففي الفترة الأخيرة أهملتُها كثيرًا، ولا أخفيكم بأن منظرها الفوضوي استفزني كثيرًا ففكرت بترتيبها، لكنني لم أستطع فعزمت على ذلك.
بدأت شمس اليوم الثاني بالغروب، وبدأت أنا بالشروع في ترتيب المكتبة لتقع يداي على كيس أبيض اللون يحوي بداخله عبق ذكريات دراستي، فتهاوت يداي لإخراج الذكريات التي فيه، وقعدتُ أقلبه علّني أخرج من بوتقة مرضي وأنساه.. وفعلًا بدأت أجول في أعماق تلك الذكريات الجميلة والأليمة، متناسيًا آلام المرض الطفيفة، وحينها وقعت بين يديّ مجموعة معينة من دفاتر دراستي وأوراق الامتحانات، وأول دفتر لمحته كان دفتر مادة الفيزياء لللصف الأول الثانوي، والذي كان أستاذ المادة ضعيف الشخصية غير قادر على ضبط مَن في قاعة الصف، أما ما يخص المادة فكانت كخيوط العنكبوت تحتاج لفكفكة المعادلات الفيزيائية، وهي مادة مركبة وكثيفة لكنها مهمة للغاية ويلزم الإلمام بها.
وضعت دفتر الفيزياء جانبًا فوقع نظري على دفتر الجغرافيا لنفس المرحلة الدراسية، وللجغرافيا حكاية طويلة، فرغم متعة المادة وارتباطها بحياة الإنسان من حيث التغيرات المناخية والطبيعة الكونية إلا أنها تغوص كثيرًا في أعماق المحيطات والبحار والأرض، بل يصل محتواها إلى خارج الكرة الارضية، هذه الكرة التي يدور جدال كبير بين زملاء العمل عما إذا ما كانت كروية الشكل أم مسطحة ؟! ولكم أن تبحثوا.
كان الغلاف الجوي يعيقني بفهمه آنذاك، فرغم أنه يتكون من 78% من غازات النيتروجين و21% من الأكسجين و1% فقط من بخار الماء والدقائق الصغيرة من الغبار، إلا أنه كان يعتبر مهمًا فهو الذي يحيط بكوكبنا (كوكب الارض) وهو في الأخير عبارة عن هواء ليس إلا..
ومما جعلني أتعجب أن بالتقليل من زراعة القات وتكرير المياه واتباع أحدث الطرق للدراسات جميعها عوامل تساعد على حماية المياه الجوفية في بلادنا، ونعلم أن الشعب لن يمتنع عن مضغ شجرة القات ولا أحد سيعمل على تكرير المياه، وبالنسبة لاتباع أحدث الطرق والدراسات فهذا محال نظرًا لمستوى التعليم السيئ في بلادنا.
أذكر أن أستاذ الجغرافيا كان يُجبرنا على رسم أغلب الخرائط - إن لم تكن كلها، والأدهى من ذلك اشتراطه رسم الخريطة في الصفحة التي في الجهة اليسرى من الدفتر، وإذا حدث وأخطأت برسمها في الجهة اليمنى فإنه يحتم عليك تمزيقها وإعادة رسم الخارطة مجددًا، هكذا كان دستور أستاذ الجغرافيا. وفي آخر قراءتي لهذا الدفتر المُمل صادفت عبارة تبين أهمية طبقة الأوزون التي تعمل على حماية الأرض من الأشعة الضارة، ولذا يجب أن نكن لطبقة الأوزون الاحترام..
مع خضم مللي من الجغرافيا قررت البحث عن دفتر التاريخ، فقد كنت من محبي المادة رغم أن أستاذ المادة كان يرغمنا على كتابة الدرس بالكامل حتى الرسومات والهوامش والأنشطة وغيرها، وكانت كتابة الدرس تأخذ وقتًا طويلًا وكنا - نحن الطلاب - نبكي ونتحجج بأننا نعاني الظلم العظيم وإنه لابد من محاكمة أستاذ المادة محاكمة قاسية وعادلة، فالقاسية كنا نظن بأنها مقابل ما نعانيه أثناء الكتابة، أما العادلة فقلناها لأننا نسمع الجميع يقولها، لكننا - والحق يقال - أدركنا فيما قيمة تلك المعاناة في الكتابة، وها نحن نقطف ثمارها الآن.
اقتربت الساعة من السادسة مساءً، وأخذ تصفحي لدفتر التاريخ وقتًا وافرًا كما كان يأخذ وقتي عند كتابته، ولن أستطيع سرد كل ما قراءته، فمن المؤكد أنني سأحتاج إلى ملزمة كاملة، ولكنني أستطيع القول بأن حضارة (الهيلينسية) كلمة مركبة من كلمتين هما “هيلين” وتعني جدة اليونانيين، و“أست” وتعني الشرق وهي حضارة ناتجة عن التمازج بين الحضارة اليونانية بالحضارات الشرقية العربية، وقد امتدت الحضارة (الهيلينسية) منذ 323 وإلى 30 قبل الميلاد، وتعتبر سورية من أهم مراكزها ويليها الاسكندرية المصرية.. ولن أضيع في لجةّ الحضارات، فتلك الإغريقية تريد أن نتحدث عنها، وهذه الرومانية القديمة وتلكم الحضارات القديمة في أمريكا الوسطى والجنوبية، بالأضافة للاسترالية وحضارتيّ الانباط وتدمر جميعها تريد نصيبها في الذكر، لكنني لن أتحدث عن أي حضارة منها!.. وأود أقول إنني وجدت في دفتر التاريخ عبارة مفادها (اليمن الموطن الأول للسامية).
كان الوقت قد مر سريعًا.. فهذا أذان المغرب يُرفع حسب توقيت مدينة عدن، وهو الأمر الذي أجبرني على مفارقة الدفتر لأداء الصلاة، الذي عدت إليه مع انتهائي منها.
انتقلت بعدها لدفاتر الصف التاسع والثامن والسابع ومن خلالهم شممت رائحة الماضي جيدًا، وعاد الزمن للوراء فعلًا، وتذكرت تلك الأيام الخالدة في ذهني والتي لا يمكن أن تُمحى من ذاكرتي أبدًا، فهي الفترة التي عاصرتُها مع خالي الصحافي (عبيد الحاج) رحمه الله وكانت ثورة في التعليم حينذاك، وأذكر أنني لم ألبث أن هدأت ليلة واحدة، وما النتائج الممتازة التي تحققت إلا خير دليل.
بعدها.. وقعت بين يديّ أوراق الامتحانات، ومما آلمني حينما جاء نظري على ورقة اختبار اللغة العربية للصف السابع، وتحديدًا على سؤال التعبير الذي سجل لي استاد المادة عليه “حسن تعبيرك”، واعطاني 4 من 10 حينها، وكان إجمالي الاختبار جيدًا، لكن أين أنت الآن يا أستاذ لتعيد لي اختبار التعبير، فالدرجة لم ترضني.. وعندما وصلت لورقة مادة الرياضيات للصف التاسع تذكرتُ أستاذة المادة العظيمة التي لم اُقابل مثلها قط، فقد قدمت جهدًا عظيمًا لنا مع أنها لم تكن مجبرةً على ذلك، وعاملتنا كأولادها، فحرصت أن تعطينا من العلم الكثير.
أذكر أنها كانت تعطينا حصصًا إضافية، حيث اتفقت معنا - ونحن في تاسع - أن ننهض باكرًا من النوم ونأتي للمدرسة في تمام السادسة والنصف لتشرح لنا تعقيدات مادة الرياضيات المُحَبَّبة لي حتى يبدأ وقت الطابور المدرسي، الذي يبدأ في السابعة والنصف صباحًا، والأدهي أننا كنا نتفاجأ بقدومها قبلنا جميعًا.. يا الله ما أروعها من معلمة، فو الله أن ما تعلمته منها ما يزال راسخًا في عقلي، ولا تظنوا بأن إدارة المدرسة كانت تضاعف الأجر لها، فأذكر أن المدير قال لها يومًا “يجب أن تغطي حصصك كلها حتى وإن كانت الحصة الاخيرة” والذي يصادف موعدها أذان ظهر كل يوم عدا الخميس والإثنين اللذين كان قليلي الحصص.
توقفت عند مادة الرياضيات استرجع تلك الذكريات الجميلة، وذلك التنافس الرهيب بين الطلاب والتشجيع العجيب من المعلمة، وأخذت معها احتسي الشاي الأحمر مع الليمون الحامض، فكما يقولون إنهُ مفيد للزكام كثيرًا..
ظللت أتجول بين ذلك الكم الهائل من أوراق الامتحانات وكلما فتحت ورقة ورأيت عبارة (توكلت على الله) التي أكتبها بعد الانتهاء من كل امتحان تحسرت بشدة على ذلك الزمان، ولا تظنوا أن العبارة من ابتكاري بل كانت طريقة صديقي الذي تعرفتُ عليه في سنة ثالث ابتدائي والذي كان مداومًا على كتابتها، واقتبستُها منه، ولكني لا أعلم سبب تخليه عن كتابتها عندما وصلنا مرحلة الإعدادية والثانوية؟!
أوشكت الساعة على الاقتراب من منتصف ليل يوم الأربعاء، وكان لزامًا عليَّ النوم للراحة، لكن تجولي في الماضي أنساني آلام مرض الحاضر.
وأنا ألملم أوراقي ودفاتري جاءت أختي الصغيرة ذات الست السنوات، وكانت قد التحقت بالدراسة هذا العام كأول عام دراسي لها، وقالت لي عبارة أصابت جسمي بالقشعريرة واسودت الدنيا أمامي، ولا أعلم كيف ركبت الجملة، وكيف نطقتها؟! قالت لي - واستمحكم العذر لكتابتها بالعامية - “يا علاء هل كان مدرسينك يكذبوا عليك؟!”.
فقلت لها على الفور “لماذا تسألي؟”، فقالت “رد.. رد”، فقلت “أكيد لا.. المدرس لا يكذب بل يعلمنا بألا نكذب”، فقالت والحسرة تملأ عينيها “شفت مدرسينكم يعلموك الصدق أما نحن بيعلمونا الكذب”، فقلت لها بصوت خشن “ماذا تقولي؟ كيف يعلمونكم الكذب؟” فردت “استاذنا له أسبوع وهو يقول بكرة بنسلم لكم الكتب، وكل ما جاء يوم ونسأله يقول بكرة بكرة”. صمت وتفاجأت جدًا من الصورة السلبية والهشة التي يطبعها معلمو هذا الزمن عند طلابهم. وأنا شارد بتفكيري قالت لي “مالك سكت؟ ليش ما ترد؟” فقلت ضاحكًا “لا بأس فربما لا توجد لديهم كتب”، صاحت وقالت “طيب يقول لنا ما فيش كُتب بدل الكذب علينا”، وخرجت من الغرفة؟!
ذهبت لفراشي وأنا أفكر بكلام هذه الطفلة الذي لم يجعلني حتى ألملم ما أخرجته من المكتبة، والأدهى أنني تركتُها والفوضى تعُج بها.
بعد أسبوع حدثت المعجزة.. فأخيرًا حصلت على “مقدمة ابن خلدون” العظيم كإهداء من الرفيق نشوان العثماني، والتي ظللت لمدة أبحث عنها، بالإضافة إلى رسالتين - من أصل سبع - من رسائل تولستوي إلى غاندي كوتشيتي، ولا زلتُ عند كلامي بأن “بالقراءة والتعليم سننهض، وسينبلج الظلام الدامس ليحل النهار المُشرق”.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى