المجلس الانتقالي

> د.هشام محسن السقاف

>
د.هشام السقاف
د.هشام السقاف
لا ينكر المرء الحاجة الجنوبية الملحة لبناء ممثل سياسي مكتمل البنى ومعافى، كالمجلس الانتقالي الذي يضم مجموعة خيِّرة تستطيع أن تضع العربة وراء الحصان لإنضاج تطلعات جنوبية لها الحق - كل الحق - في تقرير مصائر شعب تجرّع مرارة الاحتلال على مدى اثنين وعشرين عاماً ابتداءً من الاجتياح الأول للجنوب في 1994/7/7م.
ولأننا نمعن النظر - أولاً - في النصف الممتلئ من الكأس، فنرى أن تأسيس المجلس كان خطوة إلى الأمام، بالرغم من التمثيل غير العادل للجنوب كل الجنوب، وهو ما يمكن تداركه في أعمال وخطوات لاحقة بالاعتماد على عقليات راجحة في المجلس لا نشك لحظة في إدراكها لأهمية وحدة الصف الجنوبي واستقامة ما نود أن نراه من بنيان سياسي/ قانوني في الجنوب بعيداً عن المحاصصة والمناطقية وإقصاء الآخر المخالف، وهي المثالب
التي لا تبني أوطاناً بقدر ما تبني سلطات بغي سرعان ما تزول.
وحتى نضع نصاب ولادة المجلس في محله الصحيح فإن المجلس بصيغته الحالية جاء من:
(1) تفاعلات محلية رافضة لهيمنة الجمهورية العربية اليمنية بعد حرب 1994م الظالمة اكتملت بالخروج العلني الرافض في 2007/7/7م لجمعية العسكريين والأمنيين الجنوبيين، وتزامناً مع اجتماع المصالحة في جمعية ردفان بعدن، مع أشكال رافضة أخرى لم تنقطع يوماً منذ ذلك الاجتياح سواء كانت جماعية أو فردية معبرة، لعلنا نتذكر مظاهرات الغضب في المكلا التي تعمدت بسقوط شهداء، والتي عبر عنها الأستاذ الكبير عمر الجاوي بمقالته الشهيرة “سقوط الشرعية في المكلا”، وما قامت به صحيفة «الأيام» من تعبئة مدروسة عن طريق الخبر والصورة والمقالة، منذ اللحظات الأولى للاحتلال في 1994/7/7م، حيث جاءت سلسلة مقالات المفكر الدكتور أبوبكر السقاف بعنوان: “جناية الوحدويين الاندماجيين وفتح الجنوب”، وهي دراسة فكرية تاريخية وسياسية تفند عقلية الغزاة وتركيبتهم السيكولوجية والتاريخية تجاه الجنوب.. وقد طبعتها حركة “موج” ووزعت في كتيب.
وهناك الكثير من الانتفاضات والهبات الوطنية لا يتسع المجال لذكرها التفصيلي، ولكن اللافت أن مسألة توحيد المرجعيات الجنوبية كان يمر بمشقة وتعب، لأسباب منها أن الحزب الاشتراكي قد قضى على كل المرجعيات الجنوبية في فترة حكمه، وجعل من نفسه “ضمير وعقل وشرف الشعب” في مصادرة شمولية بذيئة لحقوق الإنسان، ثم ذهب يجري إلى وحدة اندماجية دون قراءة متبصرة للتاريخ الاجتماعي والسياسي لليمن ليقع في فخ المؤامرة، ويترك الجنوب نهباً لقوى وجماعات أخرى تدور في فلك حكم الجمهورية العربية اليمنية المنتصر في حرب العام 1994م.
ولذلك رأينا جماهير الحراك الجنوبي تسبق زعامات الحراك، بينما يتشتت المجهود السياسي بين الطامحين للزعامة والرافعين للشعارات العاطفية دون رؤية سياسية واقعية، وهو ما دفع سفير إحدى الدول السبع لمباشرتنا بالقول - الأخوة تمام باشراحيل ونجيب يابلي ومحمد هشام باشراحيل وأنا - إنه قد استقبل خمس مجموعات حراكية وثلاث شبابية حراكية، وهناك من ينتظر اللقاء به وبسفراء الدول الأوروبية، بينما - و القول للسفير - ذهب المبعوث الدولي حينها جمال بن عمر إلى صعدة وتباحث مع محمد عبدالسلام عن الحوثيين وعاد إلى صنعاء!
وأضفت الحرب الأخيرة في العام 2015م مستجدات أخرى على المشهد السياسي والاجتماعي في الجنوب المحرر ببروز قوى سياسية وعسكرية من المقاومة الجنوبية وسواها، يجب أن تكون ضمن رؤية المجلس الانتقالي - كجبهة وطنية عريضة - يتشارك الجميع في إطار المجلس في الصياغة المستقبلية لشكل ومضمون الجنوب القادم، مع الانفتاح على الصيغ والتشكيلات التنظيمية والسياسية الأخرى دون احتكار للحق السياسي والقانوني ودون تخوين أو تجريم لأحد.
لقد رأينا بعضاً من التوجهات المخلة من بعض المتحمسين للمجلس بإضفاء نوع من القدسية أو الواحدية التي توصم كل رأي مخالف أو ناقد للمجلس وكأنه خروج عن الوطنية، وهو قطعاً ما لا يستصيغه الأخوة في المجلس، ناهيك عن اجتزار البعض لشعارات من الحقبة السبعينية مثل “كلنا عيدروس” تذكرنا بحماقات يفترض أن نستفيد من عبرها مثل “سالمين كلنا أشبالك وأفكارك لنا مصباح”، وهي شعارات لم تمنع الرفاق من الانقضاض على رفيقهم وقتله بتلك الصورة البشعة فيما بعد.
إن الإفرازات الجانبية لهذه الفترة قد تجرنا إلى مزالق لا يحمد عقباها وهو ما يستوجب من المجلس أن يجد أدواته الإعلامية المتزنة التي تفند الحقائق وبصدق للجماهير، وبإيضاح أن المجلس هو حامل لقضية وطن وليس سلطة سياسية توزع المناصب والمواقع على الموالين والمقربين، وأنه عبارة عن وسيلة وطنية شريفة للوصول إلى هدف أسمى، لن يتحدد إلا بحركة جماهيرية ديمقراطية خياراتها صناديق الاقتراع في كل حياض الجنوب مستقبلاً.
2 - والمعطى الثاني إلى جانب ما أسلفناه عن العامل الذاتي الداخلي الدافع باتجاه إنشاء مجلس جنوبي انتقالي، هو التعاطي مع الشرعية وتحديداً شرعية فخامة الأخ الرئيس عبدربه منصور هادي، باعتبارها المرتكز الثاني لقيام المجلس من خلال اعترافنا بالدور الذي لعبته شرعية الرئيس وتعاطيه مع الخيارات الجنوبية بإيجابية رغم أنه محكوم بتوازنات القوى الأخرى في الشرعية نفسها، ومن خارجها ولا يجوز، بل لا يخدم قضية الجنوب في شيء إيصال الأمور إلى قطيعة أو تصادم مع شرعية الرئيس عبدربه منصور هادي، لما يمثله الرئيس ومؤيدوه من ثقل وطني جنوبي لن تستقيم معادلة المستقبل الموعود للجنوب بالقضاء على قطاع من الوطن أو بإقصائه أو باستبعاده. ويكفي أن نأخذ عبرة من نتائج وإفرازات أحداث يناير 1986م، فسرعان ما وصل المنتصر إلى مأزق سياسي قاد البلاد إلى نفق الوحدة الاندماجية كنوع من القفز إلى الأمام دون تبصر، ويمكن أن نقول ذات الشيء إذا انتصر التيار الآخر، تيار الأخ الرئيس علي ناصر محمد.
إن وطنا جنوبيا تنتظره الأجيال بفارغ الصبر لن تقوم مداميكه دوناً عن الضالع وأبين معاً إلى جانب يافع وشبوة وردفان وحضرموت وتبن والحوطة والصبيحة والمهرة وكل منطقة مهما صغرت أو كبرت في خارطة الوطن السيادية، و يجب علينا أن نسترجع صدى القسم الذي رددته الجماهير الغفيرة في ردفان وراء الأخ العزيز أحمد عمر بن فريد في زخم الحراك الجنوبي، من أن: دم الجنوبي على الجنوبي حرام، لندرك أن نصر الجنوب أو هزيمته ستكون من استيعاب أو عدم استيعاب هذا القسم.
إن من مهام المجلس الانتقالي الانفتاح على شرعية الرئيس هادي، مهما كانت التباينات، عن طريق الحوار الهادئ والمتزن للعمل ضمن المتاحات للوصول إلى الأهداف المرجوة ، فليس من المنطق أن نتعامل كأفراد أو مجلس مع الشرعية متى ما يروق لنا ذلك، أو متى ما أصابنا منها نصيب من منصب أو وظيفة ثم تتعكر الأجواء إذا ما أصابنا نقيض ذلك.
كما أن المجلس معني بمديده لكافة السلطات المحلية في المناطق المحررة ومساعدتها لتخفيف العبء عن المواطنين الذين هم عماد الوطن، وهم الغاية من العمل والحركة لرسم ملامح الجنوب القادم.
ولعلي على يقين من أن بقاء المجلس في مبنى السلطة المحلية في عدن إجراء انفعالي مؤقت يعود سلبًا على المجلس ويعيد إلى الأذهان تأميم المنشاءات والمرافق والمساكن في فترات سابقة، ويقال مثل ذلك على سكن المحافظ في منطقة جولدمور بالتواهي.
إن إبداء حسن النوايا وتجاوز المعوقات لصالح الاستراتيجيات الكبرى وعلى رأسها تقرير مصير الجنوب متطلبات أساسية يجب أن يتحرك على هديها المجلس الانتقالي.
(3) المعطى الخارجي: لا ينكر أحد من الناس أن اليمن ومن عهود بعيدة أصبح متلقياً وتابعاً من توابع العواصم الأساسية: المدينة المنورة أولاً، ثم الكوفة ودمشق وبغداد في العصور الوسيطة، دون أن يعطي ذلك انتقاصاً من مكانته: حيث لعب الجناح القحطاني أدواراً بارزة في صنع الأحداث الكبرى وتشكل الحكم وسياسته على مستوى الدول والأمصار المختلفة، ناهيك عن الدور الأبرز الذي لعبه الضخ البشري اليمني في الفتوحات الإسلامية من أقصى حدود الصين شرقاً إلى جنوب فرنسا غرباً.
وقد جرت الحالة التاريخية الوسيطة نفسها إلى اليوم، فالحالة الخارجية، إقليمية أو دولية، كان لها القدح المعلى - في كثير من الأحيان - في صنع أو الدفع بالأحداث في هذا الاتجاه أو ذاك. فبصمات تنظيم الإخوان المسلمين في مصر واضحة في حركة العام 1948م التي راح ضحيتها الإمام يحي بن حميد الدين واستبدلته بإمام آخر إلى حين قصير، ويقاس على ذلك استنساخ حركة الجيش في سبتمبر 1962م للتجربة المصرية على 1952
واتخاذها ملهماً في شعاراتها وخطواتها قبل أن يصبح التدخل المصري حائلاً دون سقوط صنعاء بيد الملكيين كما حدث في حركة العام 1948م، وسوف نرى بوضوح التأثير السياسي للعواصم الكبرى: القاهرة ودمشق وبغداد وحتى بيروت في تشكل الأحزاب والتنظيمات السياسية اليمنية كالبعث والناصرين والقوميين والإخوان، ولا يشذ عن هذا المساق الحركة السياسية - الماركسية التي تتلفع بإيديولوجيا قادمة من أوروبا.
ومن ذاك نستنتج أن المجلس الانتقالي ليس بعيداً عن ذلك السياق التاريخي الممتد بإيجاد ركائز دعم من هذه الدولة أو تلك، ولا يعيبه ذلك في شيء لكنه مطالب بامتلاك رؤيته الوطنية وشخصيته المستقلة التي تستطيع أن تلعب دورها التاريخي المنوط بها دون أن تكون أداة عمياء لا تفقه لعبة المصالح مع الآخرين، للاستفادة من ذلك في إنفاذ مشروعها الوطني كأن تطالب باعتراف رسمي من هذه القوة أو تلك ليصب ذلك قوة في دواليب تحركها على الصعد الإقليمية والدولية.
كما أن التصريحات المبنية على الآمال قد لا تنفع كثيراً في العمل السياسي المخاطب للمشاعر الجمعية للشعب. وقد سمعنا عن تحركات هنا وهناك للبحث عن قضية الجنوب في بعض المحافل كأروقة الاتحاد الأوربي مثلاً، وكان ذلك نصرا حقيقيا للقضية الجنوبية بينما المعروف أن كثيرا من قاعات وقنوات الاتحاد الاوروبي أو سواه مفتوحة لاستماع الآراء والطرح لقوى كثيرة من باب الاطلاع أكثر على خبايا هذه القضية أو تلك.
إن المجلس وفي تعامله الخارجي على البعدين الإقليمي والدولي يجب أن يتحلى بشخصية مقنعة تخاطب الآخر بعقلية عصرية تخرج من حلزونات الشعارات وترديد المقولات إلى الإبهار بامتلاك رؤية للمستقبل مفعمة بالعزم على إدارة دولة قادمة لا تكرر هذه الدولة الماضي الذي إن تكرر حقا فعلى شاكلة المأساة الدرامية وإنما عن طريق قواعد الدولة العصرية الديمقراطية التي تستطيع أن تقدم حلولاً للوطن الجديد لا إضافة تعقيدات وصعوبات إلى مشهده الكالح والصعب حالياً.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى