صلعـاء!

> قصة/ سمر محمد

> بالرغم من أنها لم تكن المرةَ الأولى، إلا أنَّ بدني ما زال يقشعرّ كلما حانت نفس اللحظة، ممتزجةً بصوت والدي يناديني: ادخلي يا جميلة، فأدخل غرفة الضيوف خافضة رأسي، أجرّ قدميَّ حياء إلى حيث يجلس والدي لألتصق به، وأجيب باقتضاب عن أسئلة الشاب الذي جاء لخِطبتي، وما أن ألْمحَ منه علامات الرِّضا والقبول، حتى أفجِّر القنبلة فأقاطعه سائلةً: هل أخبروك بأني صلعاءُ؟ فينظر إلي متعجبًا وهو يقول: عفوًا! أبتسم بدوري؛ فقد اعتدت الموقف، ومن ثمَّ أُشيح ببصري إلى الأرض وأنا أهم بنزع شعري المستعار من على رأسي مجيبةً إياه: أنا صلعاءُ!
نفس المشهد يتكرَّر أمامي، ها هو وجهُ الشاب يسودُ، ولسانه يتلعثم، ويداه ترتجفان توترًا، فلا يلبث إلا أن يفرَّ هاربًا، وها هو والدي يربتُ عليَّ مشفقًا، وأمي تُهرع مسرعة لمواساتي بالأحضان والكلمات، وكأنهما لم يعِيا بعدُ أنه باتت لديَّ مناعة ضد الصدمات، لقد اعتدت الأمر واستسغته وتجرعته منذ كنت صغيرة؛ فقد ولدت وكبرت صلعاء، ولم تفلح محاولات الأطباء ولا المعالجون الشعبيون في إنبات شعري، رُبِّيت وأنا أتلقى نظرات السخرية من إخوتي، فمتى تشاجرنا نادَوْني: يا صلعاء، ومتى تمازحنا نادوني: يا صلعاء، و إذا وضعت شعرًا مستعارًا أو رباطًا على رأسي فإنهم يسحبونه ويشيرون إليَّ قائلين وهم في قمة الضحك: انظروا إليها كيف تلمع؟!
فأجيبهم بدوري: وماذا تحسَبون؟ إنها أصلية.
نعم، أسخر من حالي معهم؛ لأني أعلم نياتهم الطيبة تجاهي، وأتفهَّم أن طريقتهم هي من تخونهم في كل مرة يريدون فيها التعبير عن اهتمامهم بأمري، صحيح أنني اعتدت كل هذا ولكني مللت، مللت الانتظار والعثرات؛ فأيامي متشابهة على نفس الوتيرة، ليس لأني صلعاء؛ بل لأن من حولي يرونني كذلك.
كعادتي في كل صباح ارتديت ملابسي، ووضعت شعرًا مستعارًا على رأسي حيث إنه في جامعتي لا يعلم أحدٌ بأمر الصَّلَع الذي أعانيه، سوى رفيقتي بسمة، والتي ما إن جلستُ بجوارها في الصف حتى أمطرتني بالأسئلة عن لقاء البارحة: كيف كان؟ ماذا قال لك؟ بماذا أجبته؟ وما رأي والديك فيه؟ وقاطعتها وأنا أُخرج دفترًا من حقيبتي دون أن أنظر إليها قائلة: لقد عرف بالأمر فغادر مسرعًا.
انطفأ حماسها، وكأنما سكبتُ على رأسها دَلوًا من الماء البارد، ودون أن أراها شعَرت بنظراتها ترمقني، باحثةً عن موانئ لترسو عليها في خارطة وجهي، فاستدرت نحوها وأنا أجيب قلقها قائلة: أنا بخير.
أجابتني بسمة: لا يبدو عليك ذلك، وجهك أحمر اللون كما لو كنت قد بكيتِ لساعات.
ابتسمتُ وأجبتها: كلاَّ مطلقًا، كل ما في الأمر أن هذا الشعر يضايقني إلى حد الجنون.
فردَّتْ عليَّ قائلة: آه! الحساسية مجددًا، و لِمَ لا تستبدلينه بقبَّعة أو ربطة شعر إلى أن يتحسن حالك؟
استدرت نحوها بحركة حادَّة، وأخفضت صوتي وأنا أجيبها: ما بك؟! أتريدين أن تعرف الجامعة كلها بأنني صلعاء؟!
تنهدت «بسمة» وعقَّبت قائلة: ولكنه قدرك، وعليك أن تتعايشي معه؛ إنه مرض وابتليتِ به.
قاطعتها بسخرية قائلة: مرض!
أسندت «بسمة» ظهرها إلى كرسيِّها بهدوء وهي تقول: فلتجعليه مرَضًا إذًا!
رفعت حاجبي وأنا أسألها: وكيف؟
أجابتني بهدوء أكبَر وهي تقترب مني لتهمس في أذني قائلة: بسيطة، فلتدَّعي السرطان!
نظرت إليها و قد جحظت عيناي استنكارًا، و استطردت هي قائلة: ما بك ارتعبت يا جميلة؟! ولِمَ لا يا عزيزتي؟! فلتدَّعي أنك تأخذين دواءً لعلاج السرطان، و أنه أدّى لإصابتك بالصلع، عندها ستنقلب عقارب الساعة، وعِوَضًا عن السخرية التي تخشَيْنها ستحصلين على الاهتمام والحنان والامتيازات.
رددت وراءها بصوت خافت: امتيازات؟!
ابتسمت «بسمة» وأكملت قائلة: بالطبع، مرضك سيكون واسطتك عند أيِّ طالبة أو أستاذة، ومفتاحك السحري لفتح الأبواب الموصدة، وحتى المستحيلة، الامتحانات ستكون كما تريدين، والأعذار ستقبل برَحابة صدر، وسيهبّ أو سيهتم الصغير والكبير لمساعدتك.
ظللت أرمقها لدقائق، ثم أشحْتُ ببصري عنها في صمت، لَمْ أجد ردًّا لها ولا لي، اختفت جميع الحروف والكلمات من ذاكرتي، وبقِيَت فقط كلماتها، وشعَرْت لوهلة بأن الفكرة أكبرُ من أن يتحملها عقلي، عقلي.. ذلك البلد الصغير الذي تساقطت عليه آلاف الأسئلة الثَّلجية، فجمَّدته عن التحليل والاستيعاب، أحاول جاهدةً أن أنفضها عنه فيأتي غيرها، وكأنما تتوالد في حجرات خلاياي الضيِّقة، ظللت هكذا لساعات، حتى بدأت تذوب رويدًا رويدًا، لتختفي وتتلاشى، ويبقى سؤال واحد فقط يأبى أن يغادر رأسي: ولِمَ لا؟
بعد نصيحة «بسمة» تغيَّرت حياتي تمامًا كما قالت لي بسمة، وانقلبت رأسًا على عقب، طبعًا إلى الأحسن والأجمل، أصبحت أرتدي في الجامعة قبعة أو ربطة من القماش تُظهر جزءًا من رأسي؛ لأؤكد أمر مرضي لمن حولي، وبدأت الطالبات يسألن عنِّي، تقريبًا بشكل يومي، يساعدنني في حمل كتبي وحقيبتي، وأحيانًا يكتبن لي بحوثي وواجباتي؛ خصوصًا عندما أدّعي خضوعي لجرعة دواء مؤلمة، وتعدَّى الأمر حدود الطالبات إلى الأستاذات، فقد أعادت أستاذة «وداد» الامتحان لي، و لم تطردني أستاذة «أماني» عندما تأخَّرت عن محاضرتها كما فعلتْ مع الأخريات، بتُ الفتاة المشهورة والمناضلة في الجامعة، وطلبتُ للمشاركة في محاضرات وندوات حتى أطرح فيها قصَّة كفاحي ومقاومتي لمرضي، كما أنني كتبتُ القصة ذاتَها في جريدة الجامعة، نعم، لقد كذبت الكذبة وصدَّقتها، امتهنتُها وتدرَّبت عليها، بل إنني انصهرت معها، حتى بتنا شخصًا واحدًا، شعَرت بأنني وجدت أخيرًا المعجزة التي لطالما انتظرتها، وكأنَّ الحياة كلَّها ابتسمت لي فجأة، وغرَّدت فوق رأسي.
فيما بعد مرضت بسمة فزرتها فلم تكن التي عرفتها، أين ضِحكتها ومرَحها ونشاطها، لم تكن هي، ظللت إلى جوارها لساعتين تقريبًا، حتى أفاقت وهي تفتح جَفنيها ببطء، وتتأوَّه متألمة، ولكنها ما إن رأتني حتى أشاحت بوجهِها عني، وقالت في وهَن: هل أخبرتك أمي بمرضي؟!.
أجبتُها: لا
فقالت إنه السرطان
رُبِطَ لساني، لم أستطع نطق الكلمة.. حاولت أن أتمالك نفسي ولم أستطع، فسألتها: ودموعي تنهمر منذ متى وأنت تعلمين بمرضك؟
أجابتني: منذ سنة.
نظرت إليها في ألم، وعدت أسالها: لماذا فعلت ذلك إذًا؟ لماذا أقنعتِني بأن أدَّعي المرض الذي تعانينه؟
قاطعتني في انفعال قائلة: لأنني لا أحتمل الشفقة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى