ألف جلاد والضحيّة واحدة

> نادر الضحّاك الحالمي

> اسمها (عدن)، يعني (أقام بالمكان)، فعادن تعني مقيم، وعدن المدينة تعني “أقام بالمدينة”، ذُكرت في (سفر حزقيال)، موقعها الإستراتيجي جعل منها مطمعا للكل، وسعت كل الأمم للسيطرة عليها وإيجاد موضع قدم فيها، تبوّأت مكانة مرموقة عندما كانت من أهم محطات تجارة التوابل التي انتعشت بفضل مكانها وفضل أمكنة قريناتها هذه التجارة لألف عام.
خلال الأربعينيات والخمسينيات أصبحت موانئها الأكثر نشاطاً على الكوكب، وأتت الثانية بالترتيب بعد نيويورك.
لم يخلُ كتاب في التاريخ من ذكر اسمها، ورد اسمها وجغرافيتها ومكانتها في كتب ومؤلفات ياقوت الحموي وابن خلدون والهمداني وغيرهم الكثير.
أيامها العصيبة لا تعد ولا تحصى، ولكنها بقيت شامخة لم تتزحزح، أبية، كريمة، لم تبخل، وهي ضحيّة صابرة، حليمة، لا تعادي أحداً، ولا تكره أحداً، وعلى الرغم من أسواط الجلادين، وآثار التعذيب على كل شبر في جسدها، إلا أنها لم تُقصِ أحداً، ولم تنتقم ولا تنوي الانتقام من أحد.. وعلى الرغم من كثرة جلاديها أيضاً، إلا أن لا ضحيّة غيرها، ولا قرابين تقدمها سوى رؤوس ساكنيها.. جمالها وموقعها حل وبال عليها.
أَمَا وقد قلت ذلك، فإنها لم تزل فاتنة جميلة خلابة لا ترد أحدا، كريمة مضيافة، لا تسأل زوارها من أي بلاد أنتم؟ .. لا تسألهم عن ديانتهم ولا عن مذاهبهم، ولا عن انتماءاتهم، ولا تسألهم حتى عن سبب الزيارة.. متحضرة، متفتحة، كنيسة في قلبها، ومعابد، والمساجد في كل متر من جسمها النحيل، الممتلئ بالندوب.
أثر الحروب والمعارك والصراعات لم يختفِ يوماً من على جسدها المنهك، ولكنها آثار تزيدها شموخا وكبرياء وشرفا، مازالت جميلة بوشاحها الأسود الذي لم تخلعه يوماً.. على الرغم من تقدمها في السن، إلا أنها مازالت تسحر الجميع بحسنها وقوامها، بل ويعرف جلكم أن كل هذا الصراع إنما هو من أجل كسب ودها، والتقرب منها، ثم إخضاعها والسيطرة عليها وربما اغتصابها.
شرب معظم المتصارعين عليها خمر المحاباة والمحسوبية القبلية والمناطقية، ففقدوا الوعي، ولم تزل تلك السكرة تسيطر على اتزانهم ووعيهم.. أما عدن، فلا تعرف عن نبيذ المناطقية المعتّق إلا رائحته النتنة الصادرة من أفواه جلاديها، ولكنها شربت من كأس الخلود، فلا أثر للزمان على وجهها، مع أنهم سرقوا منها كل شيء: كلمات شعرائها، وألحان أعواد فنانيها، وريش العزف، وصوت الطبول.. سرقوا منها كل شيء: النور، العلم، الثقافة، الفن، ونسبوه إليهم، حتى الكحل سُرق من عينيها، ومع ذلك مازالت كما عهدها الجميع وفيّة لأهلها، منفردة تداوي آلامها وجراحها.
فتحت ذراعيها للجميع ومازالت فاتحة الأذرع.. فزارها الفرس والهنود واليهود، وأحبها المماليك والرسوليون والطاهريون والعثمانيون والبرتغاليون، وعشقها الإنجليز قبل أن نعشقها، فخطفوها ردحاً من الزمن، ولكنها استُرِدَّت بالدم والبارود.. وعندما عادت إلى حضن أهلها تنافسوا وتقاتلوا عليها طمعاً فيها، وربما حباً لها، ولكنه حب أعمى، وحب قاتل، “ومن الحب ما قتل”.
أما اليوم، فلم تعد تحتمل هذه المعشوقة كل هذا الضيم، وهذا الجور، وهذه المهانة.. فهذا هو صدى نداءاتها يملأ الأفق، تصرخ بأعلى صوتها، مستنجدة عشاقها الرحمة والشفقة، وبين الاستنجاد والنداء تُذكِّر الجميع - وهي تبكي حسرة على مصابها - قائلة: أهكذا يُفعل بي؟!
أهكذا يُرد الجميل؟!. وهي إلى اليوم لا تعلم - ولا أعتقد أنها تريد أن تعلم - أن عشاقها ومحبيها هم مجرد جلادين وسفاحين وقتلة، أخذوا منها كل شيء، وبالمقابل لم يعطوها أبسط شيء من حقوقها.. ماء صالح للاستخدام الآدمي، وكهرباء دائمة، وشارع نظيف.
نادر الضحّاك الحالمي

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى