الـعـجـوز

> عبدالمؤمن أحمد عبدالعال

> تَعْبُر قنطرة الترعة الآسنة، بجِلبابها المشجَّر وشالِها الكمّوني، تأخذها السكَّة الزراعية الطويلة، الليل قد هبط سريعًا، نَقِيق ذُكور الضفادع، وصوت هسيس النَّخيل يجرح السُكون، ويؤنس وحدتها اللمبات الملوَّنة تومض في الظَّلام كحبَّات الكهرمان، يركض نحوها بجلبابه وعباءته الكشمير وعوده الفارع، يلومها على تأخُرِها وهو يمسِّد مسبحته الطويلة، ويتمتِم بتوتُر: “يا رب استر”..
تتباطأ في سَيْرها، ويلمح ضيقها المصطنَع، يعتذر لها، وتنبسط أساريرُه، يخبرها أنَّه ابنُه الأوَّل بعد زواجٍ دام خمسة عشر عامًا، تبتسم وهي تلمح الدار التي يجري فيها الخيل، تتوقع أجرًا بحجم الدَّار.
تختفي مع باقي النِّسوة في حجرة، وهو في حجرةٍ مُجاورة، تغيب برهةً من الزمن، تفتح الباب قلِقةً، وتشرئِبُ برأسها زائغةَ النَّظرات، يهرع إليها سريعًا، ويُجيبها ملهوفًا:
• نعم يا حاجة.
• اخلع قفطانك.
تساءلَ أوَّل الأمر مندهِشًا، وهو يتبادل النَّظرات مع أفراد عائلته:
• لماذا أخلع قفطاني؟!
صاحت به وهي تشعر بعظيمِ مَكانتها الآمِرة:
• اخلع قفطانك، واسمع الكلام.
فخلَعَه في توتّر، ورماه على الكنبة المُجاورة له:
• (أهه).
لكن المولود لم يَنْزل، تخرج حائرةً، وتصيح ثانية:
• البَسْه بالمقلوب.
وظلَّت هكذا، تأمره بأن يخلعه ويرتدِيه؛ مرَّة من الأمام، ومرة من الخلف.
وفي النهاية، يَنْداح صوتُ صراخ الصَّغير بطزاجة اللقاء الأوَّل، تدوِّي صوت الأعيرة النارية، وتتعالى الزَّغاريد وتُنحَر الذَّبائح، وتطول رقبتها بين الحضور بضعة سنتيمترات، ورُبَّما بضعة أمتار كاملة.
تقطع الخلاص، تكوي جرح سرّة الطفل بالكحول، تلفُ معصم الأم بخيطٍ رفيع معقودة بها سبع عقدات، تُتْحِفه بقائمةٍ من التحذيرات: ألاَّ يدخل عليها وهو عائدٌ من جنازة، أو من عند حلاَّق القرية، أو وهو يحمل لحمًا أو باذنجانًا!
يتلقَّى التعليمات بنفْسٍ راضية كتلميذ، يفرِّغ حافظته في حجرها مسرورًا.
تخرج من فناء الدار محمَّلةً بالهدايا، تَمنح ربَّ الأسرة وعدًا في العودة في الأسبوع؛ لتهزَّ المولود وتدقَّ (الهون)، وتجعلها ليلة (ولا كل الليالي) بالنَّجْع.. تطلق زغرودةً مَمْطوطة تتردَّد أصداؤها وهي تُغادِرُ المكان.
تَعْبُر قنطرة التّرعة عائدة، تُدندِن بأنشودة ريفيَّة قديمة، تأخذها السكَّة الزراعية الطويلة، في بيتٍ مهجور، تستبدل بِثَوبِها السُفلي الأسودِ العلويَّ الملوَّن، وتَقْلب الشال على الوجه الداكن، (تقرش) بصلةً بين أسنانها المتهدِّمة، وتقرِّبها من عينيها، تختبر عضلاتِ وجهها المليء بالنمش، وتُجهِّزها للمهمَّة القادمة، تنعق الغربانُ فوق ذوائب الأشجار، تستقبلها إحدى الدّور الواطئة بظلمة حالكة، تسيل أنفُها وعيناها بالدُموع.
النِّسوة يتَّشِحْن جميعًا بالسواد، النواح يرتفع، يُحيِّين به كلَّ زائرة جديدة! قدومها هي ليس كغَيْرها؛ يُجابَه بالصَّمت والترقّب، يعرفونها بالوشم أعلى صدغها الأيسَر، والحلقة الذهبيَّة العالقة في أنفها، تنفرج حلقة النِّسوة وتحتويها، تضيق عليها، وتتبعها إلى باب الحجرة الداخليَّة، تنهرهم بنظرات زاجرة، تَحْجزهم بذراعيها العجفاوين، تعرف طريقها جيدًا، تَلِجُ الغرفة بمفردها، تغيب بها دقائقَ معدودة، تشرئِبُ برقبتها من فُرجةِ الباب، وتَهمس:
• تريد ابنتها.
يعلو (الصوات) من جديد.. كلٌّ يتمسَّك بالرغبة في وداعها الوداع الأخير، تكرِّر بحسمٍ أنَّ ابنتها الكبرى فقط التي ستدخل، تنهرها، البكاء يقلقل الميت، وربَّما لا تستطيع أن تؤدِّي عملها بإتقان، تدس يديها في كيسَيْن من البلاستيك، تتحسَّس الأطراف المتصلِّبة، تفشل في نَزْع ملابسها، تطلب مقصًّا، تختفي الابنةُ الكبرى وتعود بالمقص، تبدأ من الكُم الأيمن حتَّى رقبتها، تستدير نحو الأيسر، تغطي العورة بمنشفة، تضغط البطن حتى تخرج الفضلات، تغسل الرأس والجسد بالماء والكافور، تجفِّفها من البلل.
تطيِّب الكفن بالمسك الأبيض والحَنوط، تلفه حولها، تطلب المساعدة من ابنتها، تَجهشُ بالبكاء، وترتخي أناملها، تدفعها إلى الخلف وتقول متبَرِّمة:
• (إوعي يا خايبة).
تَستدعي إحدى العجائز حتَّى تساعدها.
تفرغ وتخرج متهلِّلة، تتحدَّث عن النور الذي يفجّ من وجهها، تنبسط وجوه بعض أقاربها، يقترب الابن الأكبر، وقد لانَتْ ملامِحُه الباكية، وينقدها أجرًا لَم تتوقَّعْه.
تتَّسِع حلقة النِّساء تُفسِح لها طريق العودة، تَمضي وهي تَستشعر عِظمَ شأنها، يتكَأكأُ الرِّجال مندفعين لحمل النَّعش، تلتفِتُ إلى الخلف تحييها، تُطْلق صرخةً مدوِّية، تشيِّع النَّعش المندفع إلى الأمام، تردُ عليها النسوة بصراخٍ مُماثل، بينما طرفُ ثيابها الملوَّن يَبين من أسفل!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى