عيد الاستقلال بعيون الشعراء

> عبد الحفيظ العمري

> مريرة هي سنوات النضال، لكن مرارتها تذوب وتُنسى عندما يتوّج هذا النضال بالانتصار، ولو بعد حين هكذا كانت السنوات الفاصلة ما بين ثورة أكتوبر الظافرة عام 1963م وصباح الاستقلال في 30 نوفمبر عام 1967م، أربع سنوات لم تمر هينة على الأحرار، وهم يناضلون من أجل نيل الحرية الكاملة غير المنقوصة، بعيداً عن الوصاية والانتداب وغيرها من المسميات الناعمة.
يوم الاستقلال الخالد الذي تخلّص الشعب فيه من محتليه ألا يسمى عيدًا؟.. إنه والله عيد، كما سبق أن قال أمير الشعراء أحمد شوقي عن يوم جلاء نفس المحتل عن مصر:
والله ما دون الجلاءِ ويومهِ
يومٌ تسميه الكنانةُ عيدا
قلم الشاعر
لا تمر الأحداث العظام دون تسجيل وقد يغفر للشاعر تراخيه في الأحداث الروتينية اليومية، لكن إذا دقت ساعة الحرية، حمل الشاعر قلمه ليسجل تلك اللحظة الخالدة للأجيال التي لم تعاصرها، ودعونا نستمع للشاعر لطفي جعفر أمان في قصيدته المشهورة (يا مزهري الحزين):
يا مزهري الحزين
يهزني
ويشد أوتاري إلى آباري العميقة
يشدها يجذب منها ثورتي العريقة
ويغرق الأوهام من مشاعري الرقيقة
ويخلق الإنسان مني وثبة وقدره
عواصفا وثورة
تراه في القصيدة يسجل الاحتلال البريطاني للبلد منذ البداية، في لمحة خاطفة يربط الماضي بالحاضر ليدوّن التاريخ مكبوسًا، وكأنه يتكئ عليه ليدلي بشهادته أمام التاريخ عند لحظة الانتصار التي انتفض بها الزمان، ودقت الساعة الأخيرة، هنا انتقل من المكان للزمان في ترابطهما الأزلي العميق، وكأنه يصنع المسرح للحدث الذي يقول عنه :
فاندفعت جموعنا غفيرة ..غفيرة
تهز معجزاتها في روعة المسيرة
وجلجلت ثورتنا تهيب بالأبطال
الزحف يا رجال..
إنها قصيدة تسجيلية بامتياز لذلك اليوم الأغر .. والشاعر لطفي جعفر أمان قد استقبل هذا الاستقلال بقصيدة أخرى أروع عنوانها (الانتصار الكبير) يقول فيها :
على أرضنا .. بعد طول الكفاح..
تجلى الصباح .. لأول مرة
وطار الفضاء طليقاً رحيباً
بأجنحة النور ينساب ثره
نلاحظ في كلمات القصيدة مشرق النور بعبارات “تجلى الصباح /صحونا /أجنحة النور /وقبلت الشمس/ مع النور/ ضياء سخياً”…إلى غيرها من الألفاظ، لكن المهم هو التركيز على (بلادي حرة) التي هي خاتمة المطاف ومجمله.
الشعر الشعبي
وللشعبي نصيب في النضال والهم الشعري الذي يسري في نفوس الشعراء هل ينوء بحمله شعراء الفصيح فقط ؟، أم أنه همٌّ شعري واحد؟.. الهم واحد، لأنه لا يتجزأ بتنوع قوالب الشعر بين الفصيح والشعبي، وإنما هذه أدوات والشاعر من يختار أدواته المناسبة له، ودعونا نستمع لقول الشاعر الشعبي صالح سحلول مخاطبًا المستعمر في يوم الجلاء:
طال يا راجل سكونك عندنا
قرن والثاني انتصف وانته هنا
أيش ننسب لك؟ وشو تقرب لنا
هل أخونا أنت أو بن عمنا؟
ليت إنك عربي مثلنا
بانغض الطرف عنك كلنا
أنت أصلك تختلف عن أصلنا
ثم لغوك يختلف عن لغونا
بل ودينك يختلف عن ديننا
في الوطن هل أنت من جيراننا
هل حدودك لاصقة في حدنا
أيش جابك عندنا ..كيه قل لنا
بعد شاسع لا جوار بيننا
أين (بحر المانش) من حقاتنا !؟
لغة بسيطة ومفردات عامية، تتخللها ألفاظ فصحى تتدفق من ذهن الشاعر في سلاسة، بل والأجمل خطابه للمستعمر بما يفهمه المستعمر ونلاحظ هذا في ضرب المثل في البيت الأخير بقوله:
أين “بحر المانش” من حقاتنا” !؟
سخرية مريرة ، تناسب اليوم المرير الذي مرّ على الاستعمار في صباح يوم الثلاثاء 30 نوفمبر 1967م.
ولعل نفَسَ الشعر الشعبي كان هادرًا لأنه الأقرب من لغة الشارع، ولنسمع لهذه النفثة لشاعر أبين أحمد عمر مكرش:
بَرَّعْ مِن أقطار الجنوب المحمية
بَرَّعْ بلاد الغرب يا نُجَّاسها
لابُد من دق العجوز الكاهنة
دق التلف حتى توطي رأسها
ولفظة (برّع) منتزعة من نبض الشارع، وتذكرنا بالأغنية الشهيرة (برّع يا استعمار) للرائع / محمد محسن عطروش، تلك الأغنية التي كانت بحد ذاتها السمفونية اليمنية التي ألهبت الجماهير المناضلة لتواصل عطاءها لتصل إلى أفق التحرر من المستعمر الغاصب ، ولنستمع لمؤلف وملحن - ولا أقول مغني الأغنية الوحيد - لأن الشعب اليمن قاطبة غناها معه، لنستمع له وهو يصدح:
برّع يا استعمار برّع
ولى الليل ليضويك التيار
تيار الحرية.. تيار القومية
برّع يا استعمار من أرض الأحرار
وفي الختام بعد أن تم الجلاء في ال30 من نوفمبر عام 1967م ، نُزعت من أرض الجنوب طعنةٌ مسمومةٌ التي أدمت فؤاد شعبٍ كاملٍ ، وليس فؤاد الشاعر المتألمِ وحده كما قال شاعرنا محمد سعيد جرادة.
المادة بتصرف

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى