قصائد عن الشيب والشباب

> محمد حمادة إمام

> هناك مِن الشعراء الأندلسيِّين مَن أَفرَد قصائدَه، أو مقطوعاته لتصوير مشاعره، ووصْف أحاسيسه نحو الشيب والشباب، لِيضَع أيديَنا على جراحاتهم، ومَوْطِن فرحِهم ومرحِهم وجمالهم، وتسجيل ما عانَوْه، عبْر هذه الرحلة الحياتية التي عاشوها.
ولَمَّا كانت مشاعرُهم وأحاسيسُهم لا تتَّسع لها أبيات، أو مقطوعات، رأى أصحابُها أنها بحاجة إلى قصائد مستقلَّة، بَثّوا مِن خلالها مسرَّاتهم، ووصَفوا أشجانهم، تنفيسًا عن طاقةٍ وشحنةٍ تكاد تنفجر، وفيها أيضًا تخفيفٌ مِن حدَّة التوتّر، وشدة الأسى، الذي تَمَكَّن منهم، أو التقَطوه مما يحيط بهم في خضمِّ هذه الحياة.
ولكن الملاحظ أنَّ استقلال القصائد بالحديث عن الشيب والشباب لم يكُن واضحًا، أو موجودًا بكثرة في العهد الأُموي، ولعل ذلك بسبب انشغال الأمَراء والحكَّام بتوطيد أركان الخلافة، في بلدهم الجديد؛ فلم يعُد هناك مجال للتصوير إلا لما هو أهمّ، إذ إن الحروب كثيرًا ما تُنسي المرءَ نفسَه، فإذا ما هدأت الأمور، وسكن جأشُها، وتوافر للشعراء الفراغ، أخذوا في تصوير هاتين المرحلتين، ومُعاوَدة الحديث عن ذكريات أيامهم الماضية. ووُجِد لهذا الأمر أهلُه مِن الشعراء في طول البلاد وعرضها.
فهذا الإلبيري (ت 460 هـ)، وقد أَبصَر أولَ شعرةٍ بيضاء؛ فارتاع لذلك، وأنذَر نفسَه بالموت، ونصَحَها ألا تستهين بالشيب، ولو كان في شعرة واحدة، وضرَب مثلًا مِن الطَّلِّ والمطر الغزير، والصُبح الذي يبدأ بخيط أبيض، ثم يطوي سواد الليل؛ فنذير الشيب يؤذن بالأُفُول، ويؤثِّر في قوة المرء، ويحجبه عن نشاط الشباب، ويُطالبه بلزوم باب الله، والإخلاص له سبحانه وتعالى، فيقول:
بَصُرْتُ بِشَيْبةٍ وخَطَتْ نَصِيلي
فَقُلْتُ لَهُ تَأَهَّبْ للرحيلِ
ولا يَهُنِ القَليلُ عليك مِنْها
فَمَا في الشَّيب ويحك مِن قليل!
وَكَمْ قَدْ أَبْصَرَتْ عيناك مُزْنَا
أَصَابَكَ طَلها قَبْلَ الهُمُولِ
وكم عَايَنْتَ خَيْطَ الصُبْح يَجْلو
سوادَ اللَّيْل كالسَّيف الصَّقِيلِ
ولا تَحْقِرْ بنُذرِ الشَّيب واعْلَمْ
بِأَنَّ القَطْرَ يَبْعثُ بالسِّيولِ
... إلخ الأبيات.
وفي القصيدة، التفاتٌ مِن التكلم في البيت الأول إلى الخطاب بعد ذلك. ومصدر البيت الثاني: “ولا يَهُنِ القليلُ عليك منها...” من هذه القصة”؛ رأي إياس بن قتادة شَعرة بيضاء في لحْيَته، فقال: أرى الموتَ يطلبني، وأراني لا أفُوته. أعوذ بك يا رب مِن فجاءة الموت. يا بني سعد، قد وهبتُ لكم شبابي؛ فهَبُوا لي شيبي!”، وكأن قضية تأريق المشيب، قضية مشتركة بين الخلْق جميعا.
وهذا ابن حمديس، يُفْرد قصيدة له، في نصح الشِّيب والشباب اللاهين، ويندب نفسَه ويرثيها، لتفريطها - وقد بلغَتْ مِن الكبر عتِيًّا؛ سبعين عامًا - في حقِّ باريها، طالبًا المتاب، وراجيًا المغفرة، وحُسْن الثواب، فيقول:
وُعِظْتَ بِلمتَّكَ الشائبَهْ
وفَقْدِ شبيبتِكَ الذَّاهِبَهْ
وسَبْعينَ عَامًا تَرَى شَمْسَهَا
بِعَينِكَ طَالِعَةً غارِبَهْ
فَوَيْحكَ هل عَبَرَتْ ساعةٌ
ونَفْسُكَ عَنْ زَلِّةٍ رَاغِبَهْ
إلى أن يقول:
أَذِبْ مِنْكَ قَلْبًا تُجِاري بِهِ
سَوابِقَ عَبْرتِكَ السَّاكِبَهْ
عَلَى كُلِّ ذَنْبٍ مَضَى في الصِّبا
وأَتْعَبَ إِثْباتُهُ كاتِبَهْ
عَسَى اللهُ يَدْرأ عَنْك العقابَ
وإلا فَقَدْ ذُمَّتْ العاقِبَهْ
يُطالِب الرجل بالاتعاظ بالمشيب، وبمن صار رُفاتًا تحت التراب، وبالندم والبكاء على التفريط، رجاءً للثواب، ودرأً للعقاب.
أمَّا ابنُ خفاجة، فله قصائد ومقطَّعات، أَفردَها بالحديث عن الشَّيب والشباب، فها هو “يقول لأولِ شيبةٍ طلعَت في عذراه، فأفصحَتْ بوعظِه وإنذاره:
أَرِقْتُ عَلَى الصِّبا لِطُلُوع نَجْمٍ
أُسَمِّيِهِ مُسَامَحةً مَشِيبَا
كَفَاني رُزءَ نَفْسٍ أَن تَبَدَّى
وأَعْظَمُ منه رُزْءًا أَنْ يَغِيبَا
ولولا أنْ يَشُقَّ عَلَى المَعَالي
للاقيتُ الفتاةَ بِه خَضِيبَا
فَلَمْ أَعْدِمْ هُناكَ بِهِ شَفيعًا
إلى أَمَلٍ ولم أَبْرَحْ حَبِيبَا
إلى أن يقول:
ومِلْتُ عَلَى الشَّبابِ عَنِ التَّصابي
وَكَيْفَ بِهِ وَقَدْ طَلَعَتْ رَقِيبَا
وقُلْتُ: الشَّيْبُ لِلفِتْيَانِ عَيْبٌ
كَفَى الأَحْدَاثَ شَيْنًا أَنْ تَشِيبَا
عبارات تُصَوِّر كراهيته للمشيب؛ إذ إنه جعله مصيبة، وأعظَم منه مصابًا غَيْبُه، ففي غيبه موتُه، ثم عاد إلى بيان فضله في الاحتشام والوقار بعد طلوعه مُنْذرا ورقيبًا.
إن ابن خفاجة رجلٌ قادر على أن يتصرَّف في فنون الأوصاف؛ فهو كفارس خصاف... فقد بَرَعَ في تصوير حالته النفسية والشعورية براعةً شفَت نفسَه من آلام المشيب، وآمال عودة الشباب، وغُصْنِه الرطيب، فعمل حينئذ على انتقاء ألفاظه وعباراته التي تصوِّر أحاسيسَه، وهذا مِن مِثل قوله الموحي ببُغْضه المشيب: (أرقت، رزء، أعظم منه رزءًا، غريبة شيب، شنئْت لِمُجْتَلاها النور، عفَت كراهة للشيب، فهل طرب، الشيب، عيب...) إلخ.
أما عن الألفاظ الموحية بحبِّه للشباب، فمنها: (أحسن، شبيبة، يطيب بنفسه عند الغواني، يغني عن فتيت المسْك طيبا، يستألف الظبي الربيبا...) الخ.
فهذا التصوير يُرينا مدى خياله الرائع، والذي منه قوله: “أرقتُ على الصِّبا لطلوع نجم”، وهو من الاستعارة، حيث شبَّه الشيب مبدِّدًا سوادَ الرأس، بالنجم المبدِّد ظلام الكون. ونور الشيب مكروه؛ إذ إنه مُبيد للصحَّة والقوى، محرق لنضارة أوراق الصِّبا بخلاف النجم، الماحي للظلام، والهموم والغموم.
نصَّب الشاعرُ نفسَه حكمًا بين المشيب والشباب، فقضى لمَن يحبه ويهواه - الشباب - على مَن يُبغضه ولا يرجو رؤياه - المشيب.
وأبياته هذه مع ما يُضارعُها من ديوانه بيان بأنه: “كان في شبيبته مخلوعَ الرسنِ في ميدانِ مُجُونه، كثيرَ الوسنِ ما بين صفا الانتهاك وحجُونه، لا يُبالي بمَن التبَس، ولا بأي نار اقتبَس، إلا أنه قد نسكَ اليوم نسكَ ابن أذيْنهْ، وأغضَى عن إرسال نظره في أعقاب الهوى عيْنهْ”.
وشتان بين ابن خفاجة، في شبيبته مع مجونه، وفي مشيبه مع نسكه وورعه وتقواه، وبين الإلبيري، الذي نشأ منذ نعومة أظفاره بين الفقهاء، “يروي عن العلماء، ويأخذ طريقه إلى ممارسة الإقراء والرواية والتعليم”.
خبرَ ابنُ خفاجة أهمَّ طَورَين من أطوار حياته، بخيرهما وشرهما؛ فجاء تصويرُه غاية في البراعة والتفوُق والروعة.
أما ابن حمديس، فمِن بواعثِ كثرةِ حديثِه عن الشيب والشباب، هجرُه لبلده على رغمٍ منه، بعد أن وقعَت في يد النورمانديِّين، وهو في أوج شبابه، وابتلاؤه بموتِ زوجِه، وابنتِه، وجاريتِه، وفوق هذا موت شبابه، فهذا وغيره مما جعَله “يشكو الزمان، ونصيب الحر منه، وكثرة نوبه، ويأتي في خلال ذلك بعبارات شعرية جميلة، تدعو القارئ إلى الشعور بما يشعر به الشاعر.
وقد تنقبض نفسُه، فيتحرَّك خيالُه حركة البائس، الذي ينظر إلى الأيام نظرة الحاقد، ويعدِّد مساوئها، ويندب أوقات الشباب، وكأنه واقفٌ على الموت يودِّع الحياة، ويطلب المغفرة من الله، ذلك وهو في حالة كآبة نفسية، متأثرة بهذه الخواطر”.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى