الأقـدام

> خديجة رابح الحربي

> حملتني قدماي كما كانتا تحملانني كل صباح.. إلى ذلك الركن القصي في الشارع الفسيح.. وأقدام المارة تتساقط كالمطر على الرصيف.. لا أدري لماذا يحمل وقع أقدامهم موسيقى ألفتها أذناي وأحببتها.. أجلس يوميا على الطاولة نفسها.. في ركن يحميني من كل شيء.. لا يراني فيه العابرون كما كنت أراهم.. لقد ألف الشارع تفاصيل جسدي وألف النادل تقاسيم وجهي..!! فكلما رآني مقبلة ارتسمت على وجهه ابتسامة تسقط كل أحزاني.. ينثر صباحه في وجهي كما كان ينثر الورد على الطاولات.. وبهدوئي المعتاد أبادله التحية وأتجه لمقعدي الذي لم يتغير!! أجد قهوتي تسبقني ورائحتها تخترق أنفاسي.. تمتد يدي لتمسك بالوردة.. أقربها من أنفي.. استنشقها بعمق.. وأتذكر ورد حديقتي الذي كنت أجمعه كل صباح لأنثره على صباحه وفي كوب قهوته.. لأغطي جسده المجنون.. واحتفظ بجزء منه لمسائه.. فهو لا ينام إلا عندما يحتضنه.. في هذا الصباح كنت أراه في كوب قهوتي.. يا الله!! لقد جننت!!.. أصبحت أراه في كل مكان! رحلت عيناي بعيدا.. تتفحص الوجوه وتتأمل أثر الصباح على أجساد البشر.. هناك من يقرأ الصحف بارتباك.. وقد ألقى الوردة جانبا ليضع مكانها عقاله!! سألت نفسي: كيف يعتقد أن العقال أجمل من الورد في الصباح؟ أراه يقرأ حينا ويرتشف القهوة حينا آخر.. لم يكن يقرأ! .. فجأة!! تناثرت أوراق الصحيفة من بين يديه على الرصيف.. انطلق وهو يصرخ!.. تتناثر كلماته الممزوجة بلعابه لتتقاذفها أقدام العابرين.. ورحل بعيدا!! ليترك قهوته.. والوردة.. وعقاله الكبير.. لماذا يرحلون دون سابق إنذار؟؟ يتركون وراءهم كل شيء.. كل شيء.. كم أنت قاسية أيتها الأيام.. قاسية!!تسقط عيناي على فنجان قهوتي.. يا الله!! مازال هناك متعلقا بقطعتي السكر اللتين لم تذوبا بعد!! التقطت الملعقة.. ألقيتها في الفنجان.. حركتها بعنف! لم يذب السكر.. وبقي متعلقا بإصرار أكثر.. رميت الملعقة! سقطت على الأرض.. أصدرت ضجيجا يفوق صوت أقدام العابرين.. وصوت الموسيقى المنبعثة من المقهى.. صمت الجميع..!! لم أستطع النظر إليهم.. كنت أشعر بالخجل من نفسي.. لحظات وعاد الرصيف لحيويته من جديد.. عدت لفنجاني والتفت عن يميني ويساري.. الجميع مشغول!! ..
أدخلت أصبعي في الفنجان حركته بجنون أكثر.. حتى إني خشيت أن ينكسر الفنجان.. وتنسكب قهوتي اللذيذة وينسكب معها ويتساقط مع القطرات ويتأذى!! أخرجت إصبعي.. لقد ذاب السكر.. ولكن!!لم يذب معها.. بكيت عندما رأيته متعلقا بإصبعي وأكثر التصاقا بي.. رفعت رأسي لتسقط عيناي على من تجاورني.. شابة جميلة.. تشع الحيوية من جسدها الرشيق.. وعيناها تنتظران! وقد أشقاها الانتظار.. هادئة جدا.. تطعم الطيور حينا وترتشف قهوتها حينا آخر.. تتحسس الشال الوردي الذي يلتف حول عنقها. تضمه وتقبله.. يرن هاتفها.. تتطلع إلى الرقم.. تجيب.. كلمات قليلة انصهرت في أذنها لترد بابتسامة مشرقة.. لم يرها ولكني رأيتها!! ابتسمت ونسيت دموعي التي ذرفتها قبل قليل.. تقفز من مقعدها والفرح يسبقها.. تركض بين العابرين وعلى الرصيف الذي لا يهدأ أبدا، نسيت شالها الوردي الأنيق الذي سقط.. والوردة.. وهاتفها.. نسيت كل شيء.. كل شيء!..
أسأل نفسي مجددا: لماذا يرحلون وينسون كل شيء.. حتى أشياءهم الثمينة!! كم أنت جميلة أيتها الأيام.. جميلة!! عندها حملت نفسي.. تركت الطاولة.. والنادل المبتسم كعادته يقول لي: لماذا لا تحمل خطواتك صوتا كبقية العابرين؟ أجيبه والابتسامة ترتسم على وجهي: لأني من يبقى دائما.. لقد ألفت المكان وألفني وأصبحت الأرض تمتص وقع خطواتي..تركت الرصيف.. والموسيقى.. والنادل.. ولكني لست كبقية العابرين.. لم أنس شيئا.. احتضنت قلبي.. والوردة.. وحملته معي.. كما هو متعلقا بإصبعي.
خديجة رابح الحربي

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى