«عمر الجاوي».. الطود الشامخ..عقدان من الزمان.. وسيبقى خالداً في الوجدان

> عيدروس زكي

> في يوم الثلاثاء الـ 23 من شهر شعبان 1418 هـ الموافق الـ 23 من شهر ديسمبر 1997م، رحل عن دنيانا الفانية هذه مُفارِقاً لنا جَسَدَاً الأستاذ المناضل الثائر والمُعلِّم والقائد والمُفَكِّر الوطني الجنوبي الكبير السَّيِّد عُمَر بن عَبدُ الله السَّقَّاف «الجاوي» ـ يرحمه الله ويُطَيِّب ثراه ـ القامة الوطنية الشامخة التي لها وزنها الثقيل بحجم مساحة هذا الوطن، وكان حقاً العنوان الأبرز في صدارة عدالته الاجتماعية خدمة للمصلحة العليا العامة للشعب فحسب.. ولم يرحل سوى كما عرفه الناس كافة ثابتاً صلباً صلداً في مواقفه ولا يُشَق له غُبَار، وواقفاً صمود الأشجار الباسقة الوارفة الظلال.. أنا كاتب هذه السطور «عيدروس زكي» كنت حينها، ساهراً بمعية خالي الحبيب الأستاذ الدكتور السَّيِّد “ عيدروس عبد الله الحامد بن الشَّيخ أبو بكر بن سالم بن عبد الرَّحمن السَّقَّاف “ ـ يحفظه الله ـ بمنزله الكائن في حي 14 أكتوبر بمدينة خور مكسر في العاصمة عدن، وكنت منهمكاً في الاستماع إلى نشرة الساعة التاسعة في التلفاز الرَّسمي للدولة ، وإذا بي مشدوهاً عند سماع أول خبر فيها الذي فاجأني وفجعني ووجعني، فوجدته يخص الأستاذ السَّيِّد عُمَر عَبدُ الله السَّقَّاف «الجاوي»، مُعلِنَاً نبأ وفاته الصَّادم الأليم لنا عصر ذلك اليوم، إثر آلام المرض الذي هَدَّه نتيجة تحمله أوزار شؤون هذا الشعب المسكين المطحون، التي كانت وما تزال وستظل مشاقها جبالاً ثقيلة الموازين تؤرق هذه الأمة وتقض عليه مضاجعها، وغادر دنياها «الجاوي» غير مكملٍ لمشواره رغماً عنه لقصر عمره الذي لم يتجاوز الـ(59) عاماً فقط.. وكان صدقاً وعدلاً «نصير الغلابى»، و«خليل الكادحين».
*الأستاذ « عُمَر الجاوي».. رجلٌ.. ونِعْمَ الرجال هو.. أفنى عصارة أفكاره الرَّاجحة في سبيل ديمقراطية الوطن
وتطوّرها ورُقِيها، بوعيه المُلتَزِمَ وليبراليته المُنفَتِحَة جداً.. وكاد من أجلها أن يخسر حياته في وقت أبكر من عُصبَة صنعاء وفي صنعاء نفسها، وذلك في حادثة محاولة اغتياله الفاشلة الشَّهِيرَة، يوم الثلاثاء 2 ربيع الأول 1412 هـ الموافق 10 سبتمبر 1991م، أمام بوابة مبنى المنزل الخاصة المملوك لـ «آل الأستاذ الصحافي الجنوبي الكبير العميد المؤسس محمد علي عبد الله عمر باشراحيل»، (4 أبريل 1919 م ـ 21 فبراير 1993 م)، يرحمه الله ويُطَيِّب ثراه، مرسي دعائم مدرستنا الصحافية الورقية الشهيرة المتميزة هذه «الأيَّام» للصحافة والطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، وهو كذلك منزل الغاليان الأستاذ المناضل الجنوبي البطل فقيد الكلمة شهيد الكفاح الوطني هشام محمد علي باشراحيل، النَّاشِر رئيس التحرير السَّابق لصحيفة «الأيَّام» الغرَّاء، يرحمه الله ويُطَيِّب ثراه، والأستاذ المناضل الفاضل تَمَّام محمد علي باشراحيل، النَّاشِر رئيس التحرير الحالي للصحيفة، يحفظه الله ويُطيل عمره.. تلك الواقعة الآثمة التي نجت حياة «الجاوي» الثمينة منها بأعجوبة، بحمد الله تعالى، وأدت إلى إصابته بجراح غائرة في جسده المنهك ضاعفت من أوجاع قلبه المُتعَب، ونجم عن الحادثة المأساوية ذاتها أيضاً ـ لحظتها ـ إلى استشهاد صديق «الجاوي» ورفيق دربه في حزبهما «التجمع»، الذي كان في صحبته ـ وقتذاك ـ الأستاذ المهندس حسن علي الحُرَيبِي، «شهيد الديموقراطية»، يرحمه الله ويُطَيِّب ثراه، وأصيب كذلك في الحادث الإجرامي الجبان عينه، نجله فهد حسن علي الحُرَيبِي.
*«عُمَر الجَاوِي» وطنيٌ..
ونِعْمَ الوطنيون هو.. آمن بالثورة و بمبادئها السامية التي بزغت بفجرها لتُنفِض ــ نوعاً ما ــ عن كاهل الشعب المغلوب على أمره غبار الماضي بمآسيه القاسية وفقره المدقع وشِدَّة عوزه العاصف الذي جُبِلَ عليه قسراً.. والعيش في وطن حر مستقل غير مسلوب الإرادة.. وحمل في خضمها بندقيته الجسورة بيده الأولى وقلمه الشجاع بيده الأخرى.
*الزعيم السياسي
«عُمَر الجَاوِي»، مَثَّل الشمعة المضيئة في مدماك مسار الحركة التقدمية العربية الوطنية المخلصة الشريفة المنحازة إلى الجماهير والهادفة نيلها حقوقها المشروعة المكفولة لها في منصات التقَدُّم والإبداع وفي حرية الفكر والتعبير والتنوير ، وعاش «الجاوي» بطلاً شعبياً متواضعاً لا يأبه بملذات المناصب التي ابتعد عنها وكانت تهرول إليه وظل يرفسها بكلتا قدميه، زاهداً عن السلطة غير عابئ بسحرها الفَتَّان وحبذ العيش في صفوف الناس البسطاء.. ورفض بهرجات المغريات المادية الدنيوية كلها، أمثال: السَّيارات الفارهة ، والڤِيلَّات الفخمة ، والعقارات الضخمة ، كما هو حاصل اليوم في حياتنا الغريبة من العجب العجاب في هذا السِّيَاق .
مُفَكِّر..
و نِعْمَ المفكرون هو.. بإخلاصه وبإفراط كان رافداً من أُسُس الثقافة الوطنية وقضاياها المُتَشَعِّبَة بالعديد من الأفكار الألمعية النَيِّرَة والقيم التي تجعلها متصدرة أعلى المراتب وطليعتها وأسماها ما بين الثقافات.. وأسَّسَ مع أقران جيله الألماسي للوطن وأيضاً لبلدان الجوار الشقيقة وكالات أنبائه الرَّسمية وصحفه الحكومية وإذاعاته وتليفزيوناته الرسمية ، وقاد سروبها أفواجاً بحنكة واقتدار حتى وقفت على أرجلها بثبات وصلبت أعوادها ثم عَزَفَت نفسه عنها وتركها لغيره منضوياً في أوساط الشغيلة والعمال والفلاحين، محتضناً معاناتهم حتى توقف آخر نبض لقلبه الكبير.
«عُمَر الجَاوِي»، نال.. ثقة شعبه العظيم وحبه له ، ما جعله يتمتع مثله بالصبر اللا محدود.. والفكر العميق.. وبالصدر الواسع.. وبالثقة نفسها ظل صامداً أمام كل الرياح العاتية الآتية بما لا تشتهيه السفن.. وكل ذلك من أجل الوطن الذي عشقه بوفاء.. ناشداً عظمته ومجده ورفعته وسؤدده.. لكن القَدَر لم يمهله متسَّع من الوقت للاستمرار في مسيرته النضالية الفريدة وكان الأجل أسرع نحوه.
«المعارضة» الحَقَّة للنظام السابق.. شَهِدَت علو شأن كعبها تحت بيرق «عُمَر الجَاوِي» فحسب، فمن بعده ومن دونه لم يعد لها رونقها البهي، إذ حين تزعم أطيافها التعددية الحزبية كافة، كان هو صوتها العالي الصداح في وجه النظام، وكانت هذه أشد مراحل حياة «الجاوي»، وأوجها وأهم منعطفاتها في العمل السياسي، ومَثَلَّت إحدى علاماته الفارقة المليئة بأنصع صفحات النضال الوطني ضد الديكتاتورية.. فكيف لا يكون الأمر كذلك؟!.. وهو المُتَوَّج قائداً لمسيرتها و نبراساً لها على سارية «الهامش الديموقراطي» المُتاح شكلاً ـ ليس غيرـ ساعتها لحِدَّة نظام الحكم السالف، الذي اتخذ من «الديموقراطية»، مظهراً ليس إلَّا.. وظَلَّ "الجَاوِي" مشاكساً غير محبوب عند ذلك الحكم وأركانه، وبرع «عُمَر الجَاوِي»، أيَّمَا حُذقٍ في مقارعته، وإبداء حرية الرأي البَنَّاء الهادف الذي لم يكن له سقفاً معيناً في قاموسه الرَّصِين.. حال.. وما أتعسها من حال، قد هيمنت على الوطن بفقدانه «الجَاوِي عُمَر».. المُفَكِّر.. المُثَقَّف.. الإنسان.. الثوري.. الوطني.. الغيور.. التأريخ.. الكريم بسخاء ودونما حسابه لأي حساب ومع من يعرفه شخصياً عن قرب ومن لا يعرفه عن كثب.
*دوى صوته الجهوري الشجاع المعهود صارخاً في وجه غُزَاة الجنوب وحكامهم وقادتهم وتحالفهم
«الإخونجي» التَّعِس، عقب احتلاله عسكرياً بسقوط عاصمته الحبيبة «عدن» يوم الخميس الـ 28 من مُحَرَّم 1415 هـ الموافق الـ 7 من يوليو 1994 م، وكَتَبَ السَّيِّد «عُمَر الجَاوِي» في صحيفة «الأيَّام» المُوَقَّرَة الجنوبية العدنية اليومية، الجريدة الجريئة الوطنية الأولى من دون أي منازع لها أو منافس، مقاله الخالد المُعَنوَن رئيساً بـ : ((النزوع إلى «الفَيد» من المشانق )) ، الذي عدت إلى البحث عنه تنقيباً في أرشيف مكتبتي الصحافية المنزلية الشخصية الغنية النفيسة، وفي الصفحة الأخيرة من عددها الصَّادِر يوم الأربعاء 6 جُمَادى الآخرة 1415 هـ الموافق 9 نوڤمبر 1994 م، إذ قال «الجاوي» في المقال ذاته: (( كنتُ رئيساً للجنة الانقاذ في «عدن» حين تحدَّثت عن الذي جرى فيها يوم السابع من يوليو 1994 م «يوم المنتصرين الجدد».. ولقد شاهدتهم مع غيرهم وهم يحرقون وينهبون ويحتلون حتى مراكز الشرطة بما في ذلك شرطة «كِرَيتَر»، وأوجعهم الرأي الذي طرحته، أنهم بتصرفهم هذا يدفعون الناس إلى «الانفصال»، بل و يحسنونه إذا ما قارن الناس ما بينهم و ما بين زملائهم «الانفصاليين» الظاهرين )).. وأضاف «الجاوي» في المقال عينه في «الأيَّام»، والمُعَنوَن تَفَرُّعَاً بـ: ((الدِّين النَّصِيحَة)) : ((بواقع التوجه الوطني الذي نمارسه، حاولنا أن نتقدَّم بنصيحة بريئة إلى «المحترفين» الذين يريدون تحويل الإسلام إلى دين للحقد والبغضاء، الذين يسيئُون حتى إلى «تجمعهم»ـ أي «تجمع الإصلاح»ـ مع معرفتنا أحكام الدِّين تقف عند «الفَيد» عاجزة نتيجة للطمع وتعدد الفتاوى التي تصب في تحليله أن، وأنَّنَا بالنصيحة قد أسأنا إلى إحدى القِيَم المُحَرَّم لديهم طرقها «الفَيد ثُمَّ الفَيد».. لأنه الحافز الأول للاحتراف ويأتي بمنتوج أكبر وأسرع، أكثر من الاحتراف النزيه الذي يمارسه القاضي وإمام المسجد والعامل على تحفيظ القرآن الكريم)) .
أيا «عُمَر».. إن القلوب المكلومة، ما تزال تبكي غياب فكرك المُتَفَرِّد.. وإن الأنفس الحزينة ما زالت تفتقد رؤيتك لـ «تنظر» فيك قامة العملاق المُهاب الملهم الذي لا يهاب أفعال المتطفلين والجاهلين والمرجفين.
أيا «جاوياً».. طفا على أسطح العلم.. فصار “ مُمَيَّزَاً” ما بين كواكب الأهل.. والعشيرة.. والقوم.. والملأ.
أيا «معلماً».. منحاه غزير العطاء الجزيل في فكره.. في ثقافته.. في وعيه.. في نضاله.. في ثوريته.. في سياسته.. في وطنيته.. في غيرته.. على أرضه وعرضه.. فيا بشرانا.. أذلك كله؟!.. إذاً لماذا لا يكون منا لمعملنا الفاضل «الوفاء»؟!.. ولمبادءه يكون لنا اقتفاء؟!.
أيا «أستاذاً».. تفخر به أجيال الوطن.. إذ ترى فيه مثالاً وقدوة في سلوكها وفي تعاملها الفكري المدرار.. وأبداً لن تجد مثيلاً له.
أيا «عماه».. مكانتك العظمى ومنزلتك المُبَجَّلَة تبقى في الفؤاد ساكنة.. واسم السَّيِّد عُمَر عَبدُ الله السَّقَّاف «الجَاوِي» الرَنَّان باقٍ في الذاكرة . . ولن يبارح المخيلة ـ البَتَّة ـ ما حيينا وحتى يرث الله الأرض ومن عليها.. وكم يحز في النفس في هذه الأثناء أن «البلد» كم هو في أحوج إليك في ملمات الحرب هذه التي تعصف بنا أعاصير نيرانها الشديدة متنوعة الأنياب، على كل الضفاف الإنسانية والوطنية والسياسية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والأخلاقية.. كم نحن ـ أيها الطود الشامخ ـ أحوج إلى «عصاك الجاوية» الساحرة، التي كنت «تَتوَكَّأ» عليها أنتَ لـ“يَتوَكَّأ” عليها «الوطن» نفسه أيضاً، عله يتجاوز محنة فتنته الكبرى هذه.
الله تعالى سبحانه.. نسأله أن يصبغ على السَّيِّد عُمَر عَبدُ الله السَّقَّاف «الجَاوِي» سرمداً شآبيب رحمته التي وَسِعَت كل شيء وغفرانه وأن يسكنه فسيح جَنَّاته.. آمين يا رب العالمين.
وأيا «عُمَر».. إن القلوب تبكيك.. صُبحاً ومساءً، رغم مرور عقدين ضمورين من الزمان لغيابك جسداً عنا لكنك حاضراً فينا بروحك الندية العطرة وفكرك الحصيف العبقري، وبالرغم من مضي (20) عاماً هزيلةً على فراقك، لكنك ستبقى خالداً بذكرك الأزلي وذكراك المتعاقبة في وجداناتنا.
عيدروس زكي

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى