عبد الرحمن عبد الخالق.. الرحيل المبكر

> د. هشام محسن السقاف

> كان للرجل مساق آخر من حياة لم نكن لندركها، وقد جمعتنا - للمرة الأولى - فضاءات موسكوفية رائعة، بدأ الأمر ببدايات التعكير الدامي لحياتنا كطلاب بعد أن تلوث الوطن باحتراب الإخوة الأعداء غير المبرر إطلاقا، يوم الثالث عشر من يناير 1986م. لم أكمل بعد شهري الثاني في موسكو الباردة حين تفجرت الأحداث، وعندما تقررت الحقائق التالية والتلاؤم مع مخرجاتها رغم فداحتها الطاغية كنت أدلف إلى التعريف بنفسي أو أكسب التعارف الصعب بالمحيط الطلابي الذي قصمت ظهره ينايرية الرفاق الدراكوليين.
في هذه الأثناء كانت عوالم عبد الرحمن من داخل المنتصرين لا تنزع إلى عدائية من أي نوع تجاه من هزموا، أو من صنفوا أقرب إليهم بوصمهم البعد عن ثورية الفتاحيين الذين ذرفوا دموعا أكثر من دموع التماسيح على رجل لم يكن ليقر كل تلك الدموع، وقد سار في جنازته الوهمية قاتلوه.
كانت جوانح طائر الفلامنجو (عبدالرحمن عبد الخالق) تحط برفق على أغصان المحبة لمهنة الصحافة، وإن كان المتسيد فيها غول أيدلوجيا الحزب المنقسم. كان يضع الأحرف بحرفنة متقنة في رسائل فرع وكالة أنباء عدن الذي كان مديرا لها، وماذا عساها أن تكون وغول الأيدلوجيا تدمغ الحبر والورق بحروف من لون واحد.
ومن داخل راديكالية ردة الفعل المغالية وقد تربعت سدة الحكم، كان يختار الانفكاك من ثقل الارتباط الحزبي محافظا قدر الاستطاعة على مسافات دافئة مع الجميع.
في واحد من مؤتمرات الحزب وقد تجنح إلى صفين كان عليه أن يتغيب بدلا من تعتمد فئة على أختها بلباقته المعتادة وطرحه الهادئ.
تمضي سنون بعد ذلك، وتفرقنا عودته إلى الوطن وترغمنا على البقاء الاتصال بالدراسات العليا والانخراط حتى النخاع بالعمل الطلابي النقابي.
وعند العودة كانت عدن تئن من ظلم الاجتياح الشمالي الأسود في صيف 1994م، وكان عبد الرحمن قد تجلبب بجلباب العطاء المعرفي والإبداعي، وخلع المعطف السميك للحزب الذي لطالما لبسناه طوعا أو كراهية، لقد فعل كما فعل الكثيرون ولا استثني نفسي من ذلك.
تتمحور الذوات الكامنة والظاهرة لعبدالرحمن في ذات نقية واحدة .. الإبداع، والاتجاه به نحو أدب الطفل دون أن يستجلب أو يستدعي الأضواء. واللافت أن العملية الإبداعية المعقدة تتقمص السلوك الإنساني لعبد الرحمن فيغدو مبناه و معناه (إذا جاز التعبير) هو الطفولة تتمشى في كهولة الرجل.
كانت العلاقة تتجذر لا اعتمادا على التقعر بقدر ما تستقيم على تلقائيته وعفويته، وكلما حاولت أن أشده إلى أطياف موسكو الثلجية، يتجاوز ذلك عودا إلى اللحظة القائمة دون وصد عنيف لباب الذكرى.
كنت ألمح علاقته بابنته الأولى وكيف ينسج عاطفة مثالية بين الأب و فلذة كبده. ثم يخلق مودة من صنع يديه مع طفلي - حينها – عبد الناصر وغيداء - وكأنه يرسم ملامح ذلك الود بخيوط من شغاف قلبه، الذي أتعبه الطهر والحب والرقة فآل أن يسكت أخيرا عن النبض.
لا يمل عبد الرحمن من أن يسبك المحبة بالقفشات والدعابة والابتسامة الدائمة، وحين جمعتنا رحلة عمل إلى الشارقة ضمن اجتماعات المكتب الدائم لاتحاد الأدباء العرب كان ملح تلك اللحظات التي أمضيناها بين الزملاء العرب والأستاذ المتألق د. عمر عبدالعزيز دائم التفقد لنا ورعايتنا، وما كان ليضيع تلك المناسبة دون أن يلفت أنظار الأدباء العرب إلى بحثه الرصين عن أدب الطفل..
رحم الله عزيزنا الرائع عبد الرحمن عبدالخالق.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى