> رياض عوض باشراحيل
ستة عقود من الإبداع والعطاء الفني المتفرد لأحد أبرز رواد الغناء في العالم العربي، مدرسة فنية نهل منها كبار المطربين العرب وصاحب الدور البارز في ترسيخ قواعد الغناء الحضرمي واليمني وتطويره ونشره وإيصاله إلى كافة أقطار العالم أجمع.. صوت نقي نادر فاضت به حنجرته معجون بالنغم ولديه القدرة على التنقل بين مختلف الطبقات الصوتية بعظمة وشموخ يأسر به القلوب، وإحساس مميز بأصالة الكلمة ورقة النغمة والموسيقى، سجل بكل ذلك حضورا متألقا في الأذن التواقة للطرب الأصيل وبصمة مميزة سكنت صميم الوجدان العربي.. فهو مطرب وشاعر وملحن في آن معاً وهذه الصفات قلما تجتمع في مبدع واحد مثلما اجتمعت بتميز في فناننا الراحل أبوبكر سالم بلفقيه.
قدم الفنان الكبير أبو بكر سالم خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء الأغنية الحضرمية وألوان الغناء اليمني كالأغنية العدنية والصنعانية وقدم الأغنية الخليجية وبعض ألوان الغناء العربي الأخرى، إلا أن الأغنية الحضرمية التي نبت من أرضها وترعرع في أحضانها ظلت هي أساس إبداعه الغنائي خلال مسيرته الفنية كلها منذ البداية وحتى النهاية..
حمل الفنان أبوبكر سالم في فكره ووجدانه وفي صوته رسالة الأغنية الحضرمية، وأضحى مركزا غنائيا وإعلاميا لها في آن معا، أدى دوره الفني ودورا إعلاميا بديلا عن دور إدارة الثقافة والإعلام اليمنية في نشر أغنيته والتنوير بتراثه الفني من خلال تسجيلاته الصوتية والمصورة، كاشفا عن إيقاعات ومميزات وصفات الأغنية الحضرمية وأنواعها وجذورها التراثية وأصولها وارتباطها بالرقصات الشعبية الحضرمية المختلفة، نشر ثقافة أغنيته الحضرمية في دوره الإعلامي وعرّف بالدان الحضرمي في مقدمة أغنية “ياناسيين الحبايب” بقوله: “ ذا دان حضرمي قديم قديم..” و كتب في تسجيلاته المصورة معرفا بالهبيش والمشقاصي والدحيفة والعدة والغية والغياضي وغيرها من ألوان الغناء والرقص الشعبي الحضرمي وذلك في أغنيات (يقول بن هاشم، عوّد الله ليالي الأنس، شوقي إلى الغناء، مرحيب مرحيب، في الذي حبهم قلبي مولع، وغيرها). رفع لواء أغنيته عالياً وساهم في تقديمها بأصوات عربية متألقة كما دفع ابنه أصيل إلى ميدان الفن من بوابة أغنيتهما المشتركة (يا ريحة أهلي) وفاء للتربة والأهل..
*جلسة من الذكريات
وبنضوجه المبكر ونبوغه وتفتح مداركه أدرك الصبي أبوبكر سالم مبكرا أن بيئته المحلية في مدينة "تريم" بحضرموت لا يمكن أن تذكي آماله وتلبي طموحاته في تنمية مواهبه وتطور مداركه الغنائية والموسيقية، فكان لابد له أن يتجه إلى المكان الذي يستطيع فيه تحقيق هذه الطموحات والرؤى المستقبلية فولى فناننا شطره نحو مدينة “عدن” حاضرة التنوير ومنارة الثقافة والإبداع والفن في اليمن .
وكانت عدن هي محطة غربته الأولى عن مسقط رأسه مدينة تريم حضرموت، وبعد ذلك امتدت غربته وفراقه لأهله ووطنه إلى محطات متعددة في بيروت بلبنان، ثم جدة، وبعدها الرياض بالمملكة العربية السعودية التي كرمته بجنسيتها وكان وفيا لها، ثم القاهرة بمصر. تنقل في تلك البيئات وغيرها من البلدان الخليجية والعربية والأجنبية كالطائر الغريب معبرا في تلك الرحلة الطويلة عن أشجان الغربة وآلامها وأحزانها التي اكتوى بها، ولوعة ذكرياته وأشواقه للأهل والوطن في أغنيات أطرب بها جماهير الفن في الحفلات والمهرجانات وتسجيلاته الصوتية والمصورة، وسكبها في وعاء شريطه الغنائي الشهير الموسوم ب”جلسة من الذكريات”.
ففي هذا الشريط نهج الفنان أبوبكر سالم فيه منهجاً غير مسبوق من غير جانب خلال مسيرته الفنية، فقد عهد جمهوره أن يجد في كل جديد يصدره وجبة فنية متنوعة المصادر متعددة الألوان من حيث مضامين الأغنيات وموضوعاتها وأسلوب تقديمها وإيقاعاتها، إلا أنه في هذه الجلسة قصر أغنيات الشريط الست على لون غنائي واحد، هو اللون الحضرمي، منتقياً ألحاناً استقاها من معين تراثه المعطاء تمثل طائفة من أجود ألحان الدان والرقصات الشعبية الموروثة والتي لا تزال تمارس في حضرموت حتى يومنا هذا في مختلف المواسم والمناسبات كالأفراح والأعياد والرحلات السنوية ومواسم الحصاد وغيرها.. كما اختار لتلك الألحان الشعبية طائفة من الأشعار الغنائية التي تعبر عن موضوع الغربة وأحاسيس المفارق والأشواق والحنين إلى الوطن، مثل تلك الأغنيات التي سكبها في هذا الشريط كنا لا نجدها إلا لماماً في أشرطته السابقة.. فجعل من الشريط وعاء فنياً أكد فيه ارتباطه الوثيق بالأهل والتراث والتصاقه بالتربة، مردداً أنغاماً في الأفق البعيد، معيداً تشكيل تراثه الغنائي وعرضه بلمسات عصرية جديدة في الشكل أضفت إليه مزيداً من البهاء والجمال دون المساس بروح الأغنية التراثية ومضمونها.
*وسائل تراثية
لقد أجاد الفنان في هذا الشريط مزج موسيقى الأغنيات بإيقاعات وآلات ووسائل نغمية متنوعة من صميم التراث استقاها من حضرموت كالهاجر والمرواس والمزمار والخلخال، وأدخل (الصفقة) بالأيدي وما يسمى هناك (بالرزحة)، وهي الصوت الذي ينطلق عند الضرب بالرجل أو الرجلين على الأرض لدى تأدية بعض الرقصات كالهبيش والغياضى والغيّة والعدّة والشوّانى والمشقاصى.. وغيرها من الحركات البدنية الراقصة بإشرافه وبالاستفادة من فرقة الرقص الشعبي التي استقدمها من حضرموت إلى القاهرة لتسجيل تلك الأعمال بالصوت والصورة حتى يضفي عليها المذاق الحضرمي الصرف والنكهة الأصيلة..
تلك الفرقة التي قامت أيضاً بتركيب إيقاعات هذا الشريط قادها مبدع مسكون بروح الفن، عني بخدمة فنه فمنحه جل اهتمامه نقش اسمه في ذاكرة فن الغناء والرقص الشعبي الحضرمي واليمني.. إنه الفنان الراحل (علي سعيد علي) قائد فرقة الشحر للتراث البحري.. لقد عمل الفنان أبو بكر سالم على تسخير ثقافته العالية وإمكاناته الفنية المتميزة في حركة لا تنقطع وجهد لا يكل لخدمة تراثه وفنه.
*حضرموت
ومن يعرف حضرموت باليمن يعلم أنها تتكون من جزئين هما: ساحل حضرموت، ووادي حضرموت.. ويطلق وادي حضرموت على المناطق الواقعة على جانبي وادي انخفاضي وتشتهر بالزراعة والنخيل وأهم مدنها سيئون وشبام وتريم الشهيرة بـ"الغنّـاء".. وتعد مدينة تريم مركزاً من مراكز العلم والمعرفة في العصر الإسلامي، جامعها المؤسس في القرن الرابع الهجري مشهوراً، هذه المدينة هي مسقط رأس أبوبكر سالم نشأ فيها وترعرع في محيط أسرة علم وثقافة وأدب.. تفتحت عيناه على خصوبة بساتين وخمائل تريم، فتفتحت مشاعره، وسكن جمال الطبيعة وجدانه، فخصب خياله وجهزت قريحته، وانبثقت بذرة موهبته الفنية من هناك.. أحيطت بالرعاية والاهتمام في محيط الأسرة والبيئة فكبرت وأعطت ثماراً يانعة.. غادر أبوبكر حضرموت وقضى شطراً من حياته في عدن ثم غادر الوطن اليمني، ولكن أحلام الطفولة وصدى الأيام بقيت في نفسه لم تغادرها وظلت ملاعب الصبا ومجالس الأهل وتراث الأجداد حية تعيش في ذاكرته.
قدم الفنان الكبير أبو بكر سالم خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء الأغنية الحضرمية وألوان الغناء اليمني كالأغنية العدنية والصنعانية وقدم الأغنية الخليجية وبعض ألوان الغناء العربي الأخرى، إلا أن الأغنية الحضرمية التي نبت من أرضها وترعرع في أحضانها ظلت هي أساس إبداعه الغنائي خلال مسيرته الفنية كلها منذ البداية وحتى النهاية..
حمل الفنان أبوبكر سالم في فكره ووجدانه وفي صوته رسالة الأغنية الحضرمية، وأضحى مركزا غنائيا وإعلاميا لها في آن معا، أدى دوره الفني ودورا إعلاميا بديلا عن دور إدارة الثقافة والإعلام اليمنية في نشر أغنيته والتنوير بتراثه الفني من خلال تسجيلاته الصوتية والمصورة، كاشفا عن إيقاعات ومميزات وصفات الأغنية الحضرمية وأنواعها وجذورها التراثية وأصولها وارتباطها بالرقصات الشعبية الحضرمية المختلفة، نشر ثقافة أغنيته الحضرمية في دوره الإعلامي وعرّف بالدان الحضرمي في مقدمة أغنية “ياناسيين الحبايب” بقوله: “ ذا دان حضرمي قديم قديم..” و كتب في تسجيلاته المصورة معرفا بالهبيش والمشقاصي والدحيفة والعدة والغية والغياضي وغيرها من ألوان الغناء والرقص الشعبي الحضرمي وذلك في أغنيات (يقول بن هاشم، عوّد الله ليالي الأنس، شوقي إلى الغناء، مرحيب مرحيب، في الذي حبهم قلبي مولع، وغيرها). رفع لواء أغنيته عالياً وساهم في تقديمها بأصوات عربية متألقة كما دفع ابنه أصيل إلى ميدان الفن من بوابة أغنيتهما المشتركة (يا ريحة أهلي) وفاء للتربة والأهل..
*جلسة من الذكريات
وبنضوجه المبكر ونبوغه وتفتح مداركه أدرك الصبي أبوبكر سالم مبكرا أن بيئته المحلية في مدينة "تريم" بحضرموت لا يمكن أن تذكي آماله وتلبي طموحاته في تنمية مواهبه وتطور مداركه الغنائية والموسيقية، فكان لابد له أن يتجه إلى المكان الذي يستطيع فيه تحقيق هذه الطموحات والرؤى المستقبلية فولى فناننا شطره نحو مدينة “عدن” حاضرة التنوير ومنارة الثقافة والإبداع والفن في اليمن .
وكانت عدن هي محطة غربته الأولى عن مسقط رأسه مدينة تريم حضرموت، وبعد ذلك امتدت غربته وفراقه لأهله ووطنه إلى محطات متعددة في بيروت بلبنان، ثم جدة، وبعدها الرياض بالمملكة العربية السعودية التي كرمته بجنسيتها وكان وفيا لها، ثم القاهرة بمصر. تنقل في تلك البيئات وغيرها من البلدان الخليجية والعربية والأجنبية كالطائر الغريب معبرا في تلك الرحلة الطويلة عن أشجان الغربة وآلامها وأحزانها التي اكتوى بها، ولوعة ذكرياته وأشواقه للأهل والوطن في أغنيات أطرب بها جماهير الفن في الحفلات والمهرجانات وتسجيلاته الصوتية والمصورة، وسكبها في وعاء شريطه الغنائي الشهير الموسوم ب”جلسة من الذكريات”.
ففي هذا الشريط نهج الفنان أبوبكر سالم فيه منهجاً غير مسبوق من غير جانب خلال مسيرته الفنية، فقد عهد جمهوره أن يجد في كل جديد يصدره وجبة فنية متنوعة المصادر متعددة الألوان من حيث مضامين الأغنيات وموضوعاتها وأسلوب تقديمها وإيقاعاتها، إلا أنه في هذه الجلسة قصر أغنيات الشريط الست على لون غنائي واحد، هو اللون الحضرمي، منتقياً ألحاناً استقاها من معين تراثه المعطاء تمثل طائفة من أجود ألحان الدان والرقصات الشعبية الموروثة والتي لا تزال تمارس في حضرموت حتى يومنا هذا في مختلف المواسم والمناسبات كالأفراح والأعياد والرحلات السنوية ومواسم الحصاد وغيرها.. كما اختار لتلك الألحان الشعبية طائفة من الأشعار الغنائية التي تعبر عن موضوع الغربة وأحاسيس المفارق والأشواق والحنين إلى الوطن، مثل تلك الأغنيات التي سكبها في هذا الشريط كنا لا نجدها إلا لماماً في أشرطته السابقة.. فجعل من الشريط وعاء فنياً أكد فيه ارتباطه الوثيق بالأهل والتراث والتصاقه بالتربة، مردداً أنغاماً في الأفق البعيد، معيداً تشكيل تراثه الغنائي وعرضه بلمسات عصرية جديدة في الشكل أضفت إليه مزيداً من البهاء والجمال دون المساس بروح الأغنية التراثية ومضمونها.
*وسائل تراثية
لقد أجاد الفنان في هذا الشريط مزج موسيقى الأغنيات بإيقاعات وآلات ووسائل نغمية متنوعة من صميم التراث استقاها من حضرموت كالهاجر والمرواس والمزمار والخلخال، وأدخل (الصفقة) بالأيدي وما يسمى هناك (بالرزحة)، وهي الصوت الذي ينطلق عند الضرب بالرجل أو الرجلين على الأرض لدى تأدية بعض الرقصات كالهبيش والغياضى والغيّة والعدّة والشوّانى والمشقاصى.. وغيرها من الحركات البدنية الراقصة بإشرافه وبالاستفادة من فرقة الرقص الشعبي التي استقدمها من حضرموت إلى القاهرة لتسجيل تلك الأعمال بالصوت والصورة حتى يضفي عليها المذاق الحضرمي الصرف والنكهة الأصيلة..
تلك الفرقة التي قامت أيضاً بتركيب إيقاعات هذا الشريط قادها مبدع مسكون بروح الفن، عني بخدمة فنه فمنحه جل اهتمامه نقش اسمه في ذاكرة فن الغناء والرقص الشعبي الحضرمي واليمني.. إنه الفنان الراحل (علي سعيد علي) قائد فرقة الشحر للتراث البحري.. لقد عمل الفنان أبو بكر سالم على تسخير ثقافته العالية وإمكاناته الفنية المتميزة في حركة لا تنقطع وجهد لا يكل لخدمة تراثه وفنه.
*حضرموت
ومن يعرف حضرموت باليمن يعلم أنها تتكون من جزئين هما: ساحل حضرموت، ووادي حضرموت.. ويطلق وادي حضرموت على المناطق الواقعة على جانبي وادي انخفاضي وتشتهر بالزراعة والنخيل وأهم مدنها سيئون وشبام وتريم الشهيرة بـ"الغنّـاء".. وتعد مدينة تريم مركزاً من مراكز العلم والمعرفة في العصر الإسلامي، جامعها المؤسس في القرن الرابع الهجري مشهوراً، هذه المدينة هي مسقط رأس أبوبكر سالم نشأ فيها وترعرع في محيط أسرة علم وثقافة وأدب.. تفتحت عيناه على خصوبة بساتين وخمائل تريم، فتفتحت مشاعره، وسكن جمال الطبيعة وجدانه، فخصب خياله وجهزت قريحته، وانبثقت بذرة موهبته الفنية من هناك.. أحيطت بالرعاية والاهتمام في محيط الأسرة والبيئة فكبرت وأعطت ثماراً يانعة.. غادر أبوبكر حضرموت وقضى شطراً من حياته في عدن ثم غادر الوطن اليمني، ولكن أحلام الطفولة وصدى الأيام بقيت في نفسه لم تغادرها وظلت ملاعب الصبا ومجالس الأهل وتراث الأجداد حية تعيش في ذاكرته.