في ذكرى أربعينيته.. و من وحي (جلسة من الذكريات) تجربة الغربة.. عند أبوبكر سالم بلفقيه

> رياض عوض باشراحيل

> (2 - 3)
وعندما نولي وجهنا شطر شريط "جلسة من الذكريات" وننظر إليه بعين فاحصة ندرك أن جلسة الذكريات هذه هي ذكريات أبو بكر نفسه وهي تعبيراً فنياً عن مشواره في الحياة رسم به بصمته وخلع عليها ألواناً من روحه وظلالاً من نفسه لأنه يعد من أكثر فنانينا ارتباطاً بموطنه الأول وهذه سمة من سمات الأصالة والوفاء تميزه عن غيره من فناني جيله.
وتجربة الغربة والتعبير عن حال المفارق وذكرياته ليست تجربة فردية خاصة فحسب بل هي تجربة إنسانية عامة، يكتوي بنارها ويتجرع مراراتها كل مفارق، تتقاذفه الأشواق ويشده الحنين إلى مراتع الطفولة وأيامه الأولى في الحياة.
*المكان والزمان في وجدانه
إن ذكر المدن التي عاش بها طفولته وصباه يتردد في وجدانه ولسانه يعكس الحركة النفسية الداخلية، ويشعر في تكرار أسماء المناطق والمدن مثل تريم، سيئون، الغناء، حضرموت وذكرياته فيها بالشوق والراحة وتأكيد الإحساس بها ومن (الدان الحضرمي) التطريبي ينشدنا أبوبكر سالم من رقيق نظمه:
ليلة (الحد) لي مرت بذكر الخواطر
ذكرتنا بشي ما كان عالبال خاطر
ذكرتنا بلادي ذكرتنا بسيئون
عود الله ليالي الأنس في وسط سيئون
* * *
يا مخبر من الغناء كفى لا تخابر
لا تثير الشجن شفنا من الجرح خائر
لا تحاول تبوح السر لي صار مدفون
عود الله ليالي الأنس في وسط سيئون
ومن أغنيات الشاعر الفنان المرحوم حداد بن حسن الكاف (ت:1969) يقول:
صيحت في صيحت ما حصلت لي واحد ملبي
*غريب من بلدتي في سيئون
أما الشاعر حسين أبو بكر المحضار فهو توأم روحه الفنية ورفيق دربه عزفا الثنائي الغنائي الشهير على قيثارة الفن الحضرمي أجمل وأحلى المقطوعات الغنائية، جدد المحضار في شكل ومضمون الأغنية كلمات ولحناً وحملها أبوبكر على جناح أنغامه وسافر بها خارج الحدود.. ومن أغنيات المحضار يعزف بلفقيه على وتر تريم والغناء وحضرموت في ضربة واحدة فيقول:
فرصة من العمر يا ريتها ما انقضت
في تريم المدينة علينا مضت
عند المحبين لي بصدهم ما أغمضت
مقلتي لا ولا ذقته لذيذ القوت
شوقي إلى الغناء مدينة حضرموت
ويردف الفنان الكبير بالقول: "أنا من الغناء مدينة حضرموت” فخراً واعتزازاً بأصالته.
والرموز المكانية في المدينة أو الريف وساحاتها وواحاتها ووديانها وشعابها هي الأخرى تثير الشجون وتبعث اللوعة والحلم ويشعر في ذكرها بالإمتاع والاستمتاع والوصول وامتداد الحب.. ففي حضرموت شعاب ووديان تعد مرتعاً خصباً للشعراء منها (شعب عيديد) في تريم يتردد صداه على لسان أبوبكر سالم فيستجيب له وجدانه بعطر الذكريات وعبق الماضي فينشد واصفاً منهل الحسن ومورد الأحباب فيه من أغنية المحضار بالقول:
عدّيت في سفح عيديد ولحقت عد
كـل ظامي وعطشان فوقـه يرد
ما حقت عدد محاسنه لا جيت عد
أيش لبنان و أيش العاصمة بيروت
* * *
ولقيت غزلان مثناتها يرتعن
فيهن العاتقـة والتي عاللبـن
والله لو ما رميت السلب من زمن
ما يظني يخالف ميزري النبـوت
شوقي إلى الغناء مدينة حضرموت
فذلك الوادي هو (بيت العشاق) الحضارم واستراحتهم، وهو (وادي بغيض) لجميل بثينة، و(وادي الخبت) لكثير عزه، و(غدير) امرؤ القيس، وخلافها من الأمكنة التي تغنى بها العشاق العرب وارتبطت بهم وبذكرياتهم فيها على مر العصور.
كاتب الذكريات مع رئيس تحرير «الأيام» في حفل تكريم أبوبكر سالم بالدكتوراه الفخرية بالمكلا
كاتب الذكريات مع رئيس تحرير «الأيام» في حفل تكريم أبوبكر سالم بالدكتوراه الفخرية بالمكلا

فالوادي الذي يدعى (شعب عيديد) لا يزال حياً في وجدانه ينبض بذكريات فؤاده وينفذ الفنان إلى أغوار نفسه مازجاً الوصف الخارجي بالداخلي راسما مشاعر الحب والشغف والفرح والمرح التي تطفو على سطحه في (ليالي الأنس) قائلاً:
شعب عيديد لي ذكره على القلب دائر
به فؤادي وقع عربون من كنت صاغر
فيه دار الهوى ما بين ليلى ومجنون
عوّد الله ليالي الأنس في وسط سيئون
أما الزمان فيشغل مساحة متميزة هو الآخر في صميم وجدانه.. والوطن ليلاه ولذكره طعم مميز وعذوبة خاصة يعيد به إلى تلك المناظر الخلابة التي طبعت في لوحة ذاكرته.. ففي زمان الطفولة وليالي الصبا ونزهاتها وأسمارها ومشاعر الحب والفرح والمرح فيها يقول:
وذكر ليلى يذكرنا ليالي المسامر
في ليالي الصبا في وسط ذيك المناظر
في فرح في مرح في بسط بالحب مقرون
عوّد الله ليالي الأنس في وسط سيئون
وتشتعل النار في جوف المفارق وتتملكه الحيرة ويحتويه الحزن وتعتلج في نفسه لواعج البعد وآلام الحنين، فتعلو زفراته ويتصاعد أنينه.. فكيف به يقذف بتلك المشاعر خارج النفس لترق وتصفو؟.. أجل.. يعود إلى التراث ليغرف الفنان من معينه بلسمه ويطبب جراحه فيقطف أغنية الشاعر حداد بن حسن الكاف، يناجي بها وجدانه ويرسل على بساطها شكواه.. تلك الأغنية التي تتفجر مرارة ولوعة بعد امتداد أسباب البعاد، فيبعث مطربنا بهذه الأنشودة الرائعة لحناً وبالشعر الرقيق معنى ومبنى وقافية وإيقاعاً في أغنية يقول بن هاشم ومنها:
وتكاثرت الأشواق عندي بالبكاء يا عين صبى
وحن وون يا قلبي المحزون
ليلك وصبحك وأسرعي يا نار وسط الجوف شبي
البعد لي شتت وفرق بين الاثنين..
(3 - 3)
إن روعة الأشعار والألحان التي أغرق أبوبكر سالم نفسه في غمارها والاستمتاع بصياغتها وإنشادها لم تكن لتخفف من لوعته وأشجانه، وإنما راحت تشعل لديه شموع الذكريات وتلهب عنده كوامن الصبابة والوجد.. فظل يغني وينشد في حب الأهل نشيد الطائر العاشق الحزين الغريب ويقول:
في الذي حبهم قلبي مولع
دوب وقته بحيره
ما يفكر ولا يعشق سواهم
ترك الناس ترك كل مضنون
* * *
حبهم قبل ما يعرف ويسمع
عن وصوفه وديره
هكذا طبع قلبي في الهوى
دايم يدين وهو ما زال مديون
ويقول من كلماته أيضاً في أغنية (يعين الله):
يعين الله على حبك
قليبي اللي تولع بك وحن
ما حب حد قبلك
ولا شاف الهوى دربه منين
وكثيراً ما كان حب الأهل يقترن بحب الأرض لأن الصلة بينهما وثيقة وأسباب التعاطف قائمة.. فمحبوبته هنا ليست بنت العم ولا بنت الجيران أو تلك التي فتنته في الصغر، كما أنها ليست الزوجة بل هي حضرموت بأسرها.. وقد عمد الشاعر هنا إلى الإيحاء بعيداً عن السقوط في مهاوي المباشرة والتقريرية.. وتنشط الذاكرة من جديد لتقلب صفحات الأيام في كتاب الزمن وتستعيد شريط الذكريات المعطر بأكاليل وروائع الماضي في ذات الأغنية فيقول:
لعلك تذكر الماضي
القريب لي انقضى فرحه وفن
قد كنت به راضي
وفي لحظة رجع برك طحين
وكل مفارق لا بد وأن يشرب العلقم ويتجرع الألم، فتتأرجح سويعاته بين السخط والرضاء وأيامه في الراحة والعذاب والفرح والحزن، ولا يطيق ذلك صبراً فينشد شاكياً باكياً متوجعاً باسطاً أكف التوسل:
حبيبي لا تعذبنا
وتتركنا ليالي في سهن
البعد كم أضنى
وكم خلا المرح يصبح حزين
بين بلفقيه وباكثير
والحق ان جسراً من المشاعر المشتركة يربط كبار أدباء وفناني حضرموت ممن أرغمتهم ظروف الحياة على الاغتراب والعيش خارج الوطن إذ لم يستطيعوا إخفاء وجدهم وأشواقهم فسجلوها في صدق وحرارة وأمانة، وبقى فنهم وأدبهم الإنساني شاهداً عليهم.. يطل على العالم من نافذة وطنهم، وظلت تلك الطيور المهاجرة تنوح تارة وتغرد تارة أخرى خارج أسرابها كلما أحست بجذوة الفراق أو عانقت نسائم الذكريات.. فالأديب العربي الحضرمي الكبير علي أحمد باكثير عبر عن أشواقه لوطنه وحزنه على فراقه لغياب دام 24 عاماً على لسان شاعر شعبي في مسرحيته (عاشق من حضرموت).. بقوله:
والآن حدثني عن حضرموت
فإن ذكراها تثير الشجن
لم أنجو فما خلت اني نجوت
ما زال في قلبي حنين الوطن
ويقول بحسرة وحرقة على الماضي:
سقيا لأيام لنا سلفت
في حضرموت صفت لنا ووفت
يا ليتها بقيت وما عصفت
عبث الزمان بصفوها الخالي
واحسرة البال
وضياع آمالي
أليست تلك المشاعر والعواطف التي عبر عنها الفنان بلفقيه والتي طبع بها شريط الذكريات؟
نجاح فني
وقد حرص الفنان بلفقيه على تقديم كافة الأغنيات في هذه الجلسة بلهجتها الأم أي باللهجة الشعبية الحضرمية التي قد لا يستطيع فك بعض مغاليقها إلا أبناء حضرموت أنفسهم.. ولم يتدخل لاستبدال بعض الألفاظ أو ترميم البعض لغوياً حتى يدركها محبوه من خارج حضرموت لأن اللهجة الحضرمية تعد من أكثر اللهجات العربية العامية قرباً إلى الفصحى.. ولأن اللغة الشعبية لها حيويتها الخاصة في التعبير تكسبها كثيراً من الدلالات الواقعية الدقيقة، وإن ثقافة الفنان وذوقه قد أسعفاه لمعرفة الاتصال الوثيق بين شعر الشاعر واللغة المحكية في عصره.. وإن اللغة الشعبية كما يقول د. شوقي ضيف (هي التي تحمل في أوانيها كل هذا التراث فإذا تحطمت هذه الأواني تحطم التراث كله).
إن تلك الذكريات التي أمتعنا بها أبوبكر سالم لا تعبر عن ذكرياته الخاصة فحسب ولكنها أيضاً تعبر عن ذكريات كل مفارق يشده الحنين إلى موطنه ويتوق شوقاً للقاء أهله، والحكم بنجاح هذا الشريط لا يكمن في الوحدة الموضوعية لأغنياته أو في ما يحويه من مادة تراثية قيمة، ولكن معيار الفن هو مقياس الحكم الأول وقد أحسن فناننا عرض وتقديم مادته من الناحية الفنية الموسيقية أولاً ثم من الناحية التراثية، أما الذين يصرون على تقديم التراث في صورة فنية سيئة فإنهم يسيئون إلى الفن والتراث معاً..
ورحم الله القائل:
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبداً لأول منزل
رحم الله أبوبكر سالم بلفقيه.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى