خصائص اللغة العربية الفصحى ومزاياها

> أمذيب صالح أحمد

> تشترك اللغة العربية مع اللغات الأخرى الكبرى والصغرى في خصائص كثيرة وتختلف معها كلياً أو جزئياً في خصائص عديدة، غير أنها لا تقل أو تقصر في محاسنها وخصائصها المشتركة عن أرقى اللغات الأخرى إن لم تتفوق عليها فيها. أما الخصائص والمزايا التي تختلف بها اختلافاً كبيراً عن اللغات الأخرى فإنها تدل على عظمة اللغة العربية في تطورها ورقيها ونضجها وشموليتها لأصول علم اللغات المعاصر. فالعرب والمسلمون قد قاموا بالدراسات والأبحاث اللغوية قبل غيرهم من الأمم كما أنهم وضعوا معاجم اللغة العربية الكاملة على أسسٍ علمية قبل أن تعرف أمم العالم صناعة القواميس اللغوية الشاملة. غير أن سقوط الحضارة الإسلامية وصعود الحضارة الغربية قد جعل الأوربيين يرطنون بمصطلحات علوم اللغة، التي قالها علماء العربية قبلهم بأساليب مختلفة، ويسيطرون على الدراسات اللغوية التي مهما تمكنوا منها لن تجعل أية لغة من لغاتهم قادرة مع مجاراة اللغة العربية في قدرتها التعبيرية وحيويتها وتطورها، لأسباب تتعلق بقوة تركيبها العضوي ومرونتها وسعتها.
وهذه الخصائص والمزايا التي تنعم بها اللغة العربية قد تناقلتها كتب الأولين والآخرين، وقد حاولنا جمعها وتصنيفها وتبويبها مع بعض التصرف اللازم من بعض كتّاب العصر الحديث الذي اعتمدوا على الكتّاب القدامى والمعاصرين في إعادة صياغتها واقتباسها ضمن مواضيع وأغراض كتبهم اللغوية المختلفة. إننا نستطيع استخدام الأفكار السابقة بعد اعادة نسجها في بناء مختلف لتتكون منها معاني جديدة لأغراض أخرى، وهو ماحاولنا انتاجه في هذه الخصائص والمزايا. ومهما كانت عظمة اللغة العربية بين لغات العالم فإن هذه العظمة وحدها لا تؤهلها للسيادة في العالم مادامت الأمة الناطقة بها ضعيفة وممزقة ومسودة ولا تستخدم لغتها في مجالات الحضارة المختلفة من علوم وفنون وآداب ومعارف.
(1) ثراء المفردات العربية
قال الخليل بن أحمد في كتاب العين: إن عدد أبنية كلام العرب المستعمل والمهمل(12,305,412)كلمة وهو يعني ما يمكن تكوينه بتركيب أحرف الهجاء على كل شكل من الثنائي والثلاثي والرباعي، ويقول الحسن الزبيدي: إن عدد الألفاظ العربية (6,699,400) لفظ لا يستعمل منها إلا 5,620 لفظا والباقي مهمل. ويقول آخرون: إن اللغة العربية تتألف من ثمانين ألف مادة، المستعمل منها عشرة آلاف فقط والمهجور من ألفاظها سبعون ألف مادة لم تستعمل إلى اليوم. وهذه الإشارات على اختلاف أرقامها وتعدد مصادرها تكشف عن طبيعة اللغة العربية وتاريخها دون الحاجة إلى أي قدر من الإشادة أو المبالغة، وهي في مجموعها تعطي صورة الثراء والغنى في الحصيلة وتكشف عن البعد التاريخي والنمو والحيوية في نفس الوقت.
فإذا قابلنا العربية باللغات الاشتقاقية كالإنجليزية والفرنسية نجد أن العربية امتازت بخصائص أكفل بحاجة العلوم، فمن ذلك سعتها فعدد كلمات اللغة الفرنسية 25 ألفا، وكلمات اللغة الإنجليزية مائة ألف، أما اللغة العربية فعدد موادها 400 ألف مادة، ومعجم لسان العرب يحتوي على 80 ألف مادة (لاكلمة) ومواد اللغة العربية تتفرع إلى كلمات، فإذا فرضنا أن نصف مواد المعجم منصرفة، بلغ عدد ما يشتق منها نصف مليون كلمة.
"من كتاب الفصحى لغة القرآن للأستاذ أنور الجندي"
(2)خصائص الحروف العربية
(أ) اكتمال جهاز النطق في اللغة العربية
إن اكتمال جهاز النطق في اللغة العربية الذي تخرج منه هذه الحروف عند العلماء - يمتد من الشفتين إلى الجوف، وليس ثمة موضع بين هذين إلا وتجد أن حرفا أو أحرفا تخرج منه، “فليس في اللغة العربية حرف يلتبس بين مخرجين، وليس في النطق العربي مخرج ينطبق فيه حرفان”.
ومخارج الحروف العربية سبعة عشر مخرجا، وما نظن أن لغة من اللغات لحروفها من السعة في المخارج ما للحروف العربية.
وليست قضية السعة وحدها في الحقيقة هي التي منحت الحرف في العربية هذه الطمانينة في النطق، بعيدا عن القلق والاضطراب والتشابه والتشابك مع غيره، وإنما هناك أمر آخر ينبثق عن هذه السعة، وهو توزع المخارج على أمكنة متعددة، فالحلق مثلا فيه مخارج ثلاثة، وفي اللسان عشرة مخارج....إلخ.
إذن، العدالة الطبيعية في توزيع هذه المخارج جعلت الحرف العربي مزدانا في مكانه. يقول الأستاذ محمد المبارك - رحمه الله - في كتابه (فقه اللغة وخصائص العربية):
“قد تجد في لغات أخرى غير العربية حروفا أكثر عددا، ولكنها محصورة مخارجها في نطاق أضيق، وفي مدرج أقصر، قد تجدها مجتمعة متكاثرة في جانب الشفتين، وما والاهما من الفم أو الخيشوم في اللغات الكثيرة الغنة، أو تجدها متزاحمة في جهة الحلق، وفي كلا الحالين ضيق في الأفق الصوتي، واختلال في الميزان الصوتي، وفقدان لحسن الانسجام، بسبب سوء توزيع الحروف”.
والحروف في العربية بضعة وعشرون، على حين أن هناك لغات تزيد الحروف فيها على ضعف هذا العدد، ومع ذلك تبقى الحروف العربية أشد وضوحا وأبين نطقا، بل تبقى هذه الحروف العربية في الحقيقة أكثر من غيرها من الحروف الكثيرة في اللغات الأخرى. وبالمقارنة بينها وبين اللغة الإنجليزية التي يتكلم بها معظم سكان العالم الآن فإننا نجدها تفوقها في الأصوات وفي الألفاظ. ففيها 28 حرفا في حين أن اللغة الإنجليزية 26 حرفا، وليس في هذه الحروف الثمانية والعشرين حروف تدل على أصوات مكررة، بخلاف حروف الأصوات في الإنجليزية.
يقول الأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه (اللغة الشاعرة):
“ليست الأبجدية العربية أوفر عددا من الأبجديات في اللغات الهندية الجرمانية، أو اللغات الطورانية، أو اللغات السامية، فإن اللغة الروسية – مثلا - تبلغ عدة حروفها خمسة وثلاثين حرفا، وقد تزيد ببعض الحروف المستعارة من الاعلام الأجنبية عنها، ولكنها - على هذه الزيادة في حروفها - لا تبلغ مبلغ اللغة العربية في الوفاء بالمخارج الصوتية على تقسيماتها الموسيقية؛ لأن كثيرا من هذه الحروف الزائدة إنما هو حركات مختلفة لحرف واحد، أو هو حرف واحد من مخرج صوتي واحد، تتغير قوة الضغط عليه كما تتغير قوة الضغط في الآلات؛ دون أن يستدعي ذلك افتنانا في تخريج الصوت الناطق من الأجهزة الصوتية في الإنسان.
فهناك حرف ينطق (يا)، وحرف ينطق (يو). وحرف ينطق (تسي)، وحرف آخر ينطق (تشي)، وحروف أخرى هي في حقيقتها تثقيل لحروف الباء والفاء والجيم، ليس فيها تنويع نطقي يدل على التصرف الحي في استخراج الأصوات الكلامية من مخارجها المتعددة، ولكنها تنويع آلي مادي لدرجة الضغط على المخرج الواحد، بغير كسب للأجهزة الناطقة في تصريفاتها المتعددة.
وبمثل هذا الاختلاف في الضغط، أو الاختلاف في الحركة، يمكن أن تبلغ حروف الأبجدية خمسين أو ستين، ولا تدل على تنويع مفيد لمخارج النطق الإنساني على حسب الملكة الموسيقية الكامنة في استعداده.
وتظل اللغة العربية بعد ذلك أوفر عددا في أصوات المخارج التي لا تلتبس ولاتتكرر بمجرد الضغط عليها، فليس هناك مخرج صوتي واحد ناقص في الحروف العربية، وإنما تعتمد هذه اللغة على تقسيم الحروف حسب موقعها من أجهزة النطق، ولاتحتاج إلى تقسيمها باختلاف الضغط على المخرج الواحد؛ كما يحدث في الباء الخفيفة والباء الثقيلة التي يميزونها بثلاث نقط من تحتها بدلا من النقطة الواحدة، أو كما يحدث في الفاء ذات النقطة الواحدة أو ذات النقط الثلاث، أو كما يحدث في الجيم المعطشة، وغيرها.
وعلى هذه الصور تمتاز اللغة العربية بحروف لا توجد في اللغات الأخرى؛ كالضاد، والظاء، والعين، والقاف، والحاء، والطاء، أو توجد أحيانا ولكنها ملتبسة مترددة لا تضبط بعلامة واحدة.
وعلى هذه الصورة أيضا استغنت اللغة العربية عن تمثيل الواحد بحرفين مشتبكين أو متلاصقين، كما يكتبون الثاء والذال والشين وغيرها في بعض اللغات.
ذلك ما نعنيه باللغة الشاعرة في تقسيم حروفها، فهي لغة إنسانية ناطقة، يستخدم فيها جهاز النطق الحي أحسن استخدام، يهدي إليه الافتنان في الإيقاع الموسيقي، وليس هنا أداة صوتية ناقصة تحس بها الأبجدية العربية، إذ ليس في حروف الأبجديات الأخرى حرف واحد يحوج العربي إلى افتتاح نطق جديد لم يستخدمه، وكل ما هنالك أنه قد يحوجه إلى الضغط الآلي على بعض الحروف المعهودة، وهو ضغط يدل على العجز عن تنويع الأصوات، واستخدام أجهزة الحياة الناطقة على أحسن الوجوه، وأقربها إلى التنويع والتفصيل.
وقد كانت سليقة اللغة العربية هي الهداية النافعة لعلمائها فيما اختاروه من ترتيب الأبجدية على وضعها الأخير، فإن هناك تناسبا موسيقيا فنيا بين الحروف المتقاربة، لا مثيل له في الأبجديات الأعجمية التي تلحق فيها السين بالتاء، أو التي يمكن ترتيبها على غير هذا الوضع دون تغيير في دلالات الألفاظ أو دلالات الأشكال.
أما اللغة العربية، فخذ منها - مثلا - حروف الباء والتاء والثاء، فإن الباء قريبة من مخرج التاء، وإن التاء والثاء متقاربان، حتى يقع بينهما الإبدال في كثير من الكلمات.
وهذه الخصائص للحروف العربية لن تجدها مجتمعة في لغة من اللغات، فإذا تحققت ميزة من هذه الميزات في بعض اللغات، فمن العسير أن تجد ميزة ثانية، فضلا عن أن تجدها مجتمعة.
إن جميع ألفاظ العربية ترجع إلى نماذج من الأوزان الموسيقية والكلام العربي نثرا كان أو شعرا هو مجموع من الأوزان ولا يخرج عن أن يكون تركيبا معينا لنماذج موسيقية قد يكون في احتمالاته التركيبية التي لا حصر لها كثيرا من التوفيق في الجرس والنغمة والانسجام أو قليلا منه، ولو أنك حاولت نقل أي كلام عربي أو صفحة من كتاب إلى رموز موسيقية وأوزان لوجدته يتركب من وحدات تتشابه وتختلف وتتكرر وتتناظر ويتألف من مجموعها قطعة موسيقية. وكثيرا ما استثمر الشعراء والكتاب العرب هذه الخاصة الموسيقية فقابلوا بين نغمة الكلام وموضوعه مقابلة لها أثرها من الوجهة الفنية.
(ب) ثبات أصوات الحروف العربية
وإذا كانت هذه ميزة للحرف العربي من حيث المكان، فإنه له الخصائص من حيث الزمان كذلك، ونعني بها ثبات هذه الحروف من حيث النطق.
إن أي حرف من حروف العربية، لو هيئ لك وسمعت أقدم شعراء الجاهلية وهو ينطق به، فإنك يقينا لن تجد فرقا بين نطقك ونطقه، ولاتظنن أن في ذلك عنصر المبالغة أو المغالاة.
وهذا هو كتاب الله تبارك وتعالى، يتلقاه المتأخرون عن المتقدمين، بطريق المشافهة، منذ عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، دون أن يغير النطق بحرف منه، ومعاذ الله أن يكون ذلك، بل إن علماء التجويد يملكون ميزانا دقيقا كل الدقة في كيفية النطق بالحرف، ولما كان ذلك يظهر في بعض الحروف أكثر من بعض، فلقد وجدناهم ينبهون على كيفية النطق بالجيم والشين والظاء والطاء... إلى غير ذلك مما هو بين في كتب القوم - رحمهم الله.
ولا ريب أن القرآن الكريم حفظ الأصالة لهذا الحرف العربي، وحال بينه وبين ما لحق الحروف في اللغات الأخر من عدم استقرار على حال، وتزحزحه عن مخرجه تزحزحا واضحا، يقل تارة، ويكثر تارة، فلا تلتفت إلى ما يقوله كثير من علماء اللغات من وجوب تغير نطق الحروف مع مرور الزمن، فهؤلاء يحكمون على لغاتهم.
(ج) دلالة معاني الحروف العربية
وهناك ميزة أخرى للحرف العربي لا تتصل بمخرجه ولا بثبات صوته على مدى العصور، لا تتصل بالزمان ولا المكان، وإنما تتصل بذات الحرف، والمعنى الذي يفهم منه، فلكل حرف من الحروف العربية معنى تلمحه منه، فالراء تشير إلى التكرار والاستمرار، والقاف إلى القوة، والغين للاستتار، والفاء للشق والقطع، والدال للشدة، الشين للتفشي والانتشار... إلى غير ذلك مما يمكن أن نجده في الحروف العربية.
"من كتاب اللغة الشاعرة للأستاذ عباس محمود العقاد"
"من كتاب البلاغة المفترى عليها بين الأصالة والتبعية للدكتور فضل حسن عباس"
(3) خصائص الكلمات العربية
أما خصائص الكلمات العربية فنوجزها بمايلي:
(أ) أصول ثلاثية للكلمات:
إن أكثر هذه الكلمات ذات أصول ثلاثية، مما يجعل النطق بها سهلا ميسرا، وقد يكون في هذه الأصول الثلاثية حرف مد تجمل به الكلمة.
ومما يزيد في إعجابك أنك تجد هذه الأصول الثلاثية التي كونت منها الكلمات، التزموا فيها أمورا حتى تبقى للكلمة حلاوتها وطلاوتها، فحروفها لابد أن تكون منسجمه بعضها مع بعض؛ وإنما تمكنوا من هذا التصرف لميزات حروفهم التي تكلمنا عنها من قبل.
وغير الكلمات الثلاثية؛ كالرباعي، والخماسي؛ قليل، وربما كانت الكلمة الرباعية مضعفة الحرف، فكانما هي كلمتان منفصلتان، مثل (وسوس)، و(زلزل)؛ ولذلك وجدنا هذه الأصول في القرآن الكريم ما ينيف على خمسين ألف كلمة من الأصول الثلاثية، بينما غير الثلاثي لا يصل إلى تسع مائة كلمة، وهناك أصول ثنائية، ولكنها قليلة جدا.
(ب) اشتقاق المقاليب (الاشتقاق الكبير)
ومن خصائص الكلمة في العربية كذلك، هذه الصلات الوثيقة التي نجدها بين أصول الكلمات في موادها الأولية. وهذا ما يتحدث عنه العلماء تحت عنوان: “الاشتقاق”، وهم لا يقصرون الاشتقاق بالطبع على ما تتصرف إليه الكلمة الواحدة إلى أبنية كثيرة، وصيغ متعددة، كمادة (علم) التي يمكن أن نشق منها: علم، وعالم، ومعلوم، ومعلم، وعلم، واعلام.. وهذا ما يتكفل به تفصيلا وتبويبا علم الصرف، وإنما هناك مفهوم واسع للاشتقاق، فقد يشمل ملاحظة ما بين الكلمات ذات الأحرف المتماثلة التي اختلف وضعها في الكلمة تقديما وتأخيرا، ك(شيخ) و (خيش)، و(سفر)، أو المتقاربة، ويشتمل ما بين هذه الكلمات من صلات وروابط.
فمن الأحرف المتماثلة كلمة (شيخ)، و(سفر)، و(كلم)، فإذا تصرفنا في هذه الكلمات، فقدمنا بعض حروفها، وأخرنا بعضها الآخر، فإننا نجد هناك صلة بين المعاني التي تدل عليها هذه الأحرف، فالشيخ الذي يطلق على من كبر سنه، والخيش الذي يطلق لما عظم من النسج. والسفر للكتاب الذي يكشف للإنسان عما فيه من علم، وكذلك كلمة السفر التي تكشف للمسافر كثيرا من المجاهيل، والفسر هو الكشف كذلك. وكذلك يقال في الكلم، والملك، وما يتصرف من هذه الأحرف.
ومن الحروف المتقاربة هذا التشابه العجيب الذي لا نجده في غير العربية، حينما تلتقي الكلمتان أو الكلمات في بعض الأحرف: خذ مثلا النون والفاء في أي كلمة من الكلمات، فإنك تجد هناك صلة وثيقة، ورابطة قوية بين الكلمات التي بدأت بهذين الحرفين، مثل: نفق، ونفذ، ونفر، ونفط، ونفح، ونفخ. ألا ترى أنها جميعا تدل على الخروج والذهاب؟
وخذ مثلا الفاء واللام، فإنك تجد الكلمات التي بُدئت بهذين الحرفين؛ مثل: فلح، وفلق، وفلخ، وغير ذلك؛ يدل على الشق.
وهكذا الدال والميم؛ مثل: دمر، ودمع، ودمج، ودمدم. هذه الرابطة بين الكلمات لا توجد في غير العربية:
ومثل هذا مثل مادة الدال واللام التي تدل على الانتقال: من ذلك مادة (دلك) تدل على الانتقال، ففي الزوال انتقال من دائرة نصف النهار إلى ما يليها، وفي الغروب انتقال من دائرة الأفق إلى ما تحتها، وكذا في الدلك المعروف انتقال اليد من محل إلى آخر. ومثل (دلج) بالجيم من الدلجة، وهي سير الليل، وكذا دلج بالدلو إذا مشى بها من رأس البئر للمصب، و(دلح) بالحاء المهملة إذا مشى مشيا متثاقلا، و(دلع) بالعين المهملة إذا أخرج لسانه، و(دلف) بالفاء إذا مشى مشية المقيد، وبالقاف إذا أخرج المائع من مقره، و(دله) إذا ذهب عقله، وفيه انتقال معنوي إلى غير ذلك، و(الدلس) الظلمة أو اختلاط الظلام.
أما مادة الكلمة، فإنك واجد فيها ما تطيب به نفسك، ويانس له قلبك، ذلك إنك حين تنظر في كثير من المعاني تظن أن بعضها بعيد عن بعض، فإذا أمعنت النظر وجدتها ذات أصل واحد.
خذ مثلا حرفي الجيم والنون؛ تجد أنك تكون منهما هذه الكلمات: (الجِنّ)، (الجُنّة)، و(الجَنَّة)، ولأول وهلة تظن أن هذه الكلمات بعيد بعضها عن بعض، فإذا عرفت أن الجن هم ذلك العالم من المخلوقات الذين لا نستطيع رؤيتهم لخفائهم واسستتارهم، وعرفت أن الجنة هي ما يستر المحاربين؛ كالدموع، أو ما يقيه من الآثام، ومنه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “الصوم جُنّة” وأدركت أن الجَنَّة هي البستان ذو الشجر الكثيف، الملتف بعضه على بعض، وهو الذي يستر من يكون فيه عن الأعين؛ فإنك لا تماري في أن هذين الحرفين - الجيم والنون - يدلان على الخفاء والستر، وكذلك كل ما يركب منهما من كلمات، وهذا ما يتكفل به بيانا وشرحا علم الاشتقاق، وهو الاشتقاق الأكبر، احترازا عن الاشتقاق الأصغر، الذي هو من مباحث علم الصرف.
(ج) صيغ الكلمات بمعانيها المختلفة
أما من حيث صيغة الكلمة، فللصيغة في العربية دور فكري، ووظيفة عقلية، أو رابطة اجتماعية، يتجلى هذا عندما نأخذ صيغة معينة، كأسماء الفاعلين، أو المفعولين، أو أسماء الزمان والمكان أو اسم المرة والهيئة أو أبنية الصفة المشبهة أو أبنية المبالغة أو اسم الآلة أو أبنية الجموع وأوزانها أو النسب أو أي صيغة من الصيغ، فإنه يكفي الإنسان أن يعرف صيغة معينة لشي معين؛ ليقيس عليها غيرها مما لايعرف. ومع أن كل كلمة تتعدد صيغها كثيرا بالاشتقاق فإن كل صيغة ذات معنى يختلف عن الصيغ الأخرى للكلمة.
فإذا عرف أن مكتب ومكتبة اسما مكان، استطاع أن يدرك أنه يعطي هذا الحكم لـ: منجم، ومعرض، ومجمع، وملعب، ومسلق، ومسلخ، ومقراة، ومصبغة، ومسمكة، ومنجرة. وكذلك كل صيغ العربية فيما تحدثه في النفس من هذه الروابط الفكرية.
وقد تظن ذلك أمرا طبيعيا، لأننا نحن أبناء العربية، ننطق بها دون تكلف أو غرابة، ولكن إذا عرفنا أن اللغات الأخرى لا تنعم بهذه النعم أدركنا قيمة هذه اللغة وروعتها، وفضلها على غيرها من اللغات.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى