القمندان رائد التجديد والمعاصرة في لغة الشعر العامي باليمن

> محمد فاضل حسين

> يجمع عدد كبير من الباحثين في تاريخ الشعر اليمني القديم أن الشعر العامي القديم بلغ أرقى درجات تطوره وازدهاره خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر على يد كبار شعرائه: شرف الدين، والعنسي، والآنسي، والعيدروس، والمزاج وغيرهم.
بما تميزت به إبدعاتهم من عذوبة اللغة وصفائها وبعدها عن الركاكة والإسفاف، وميلهم إلى الاعتماد على اللغة الفصحى مسكونة الأواخر، واستخدام العامية الشائعة، وبما حملت إبدعاتهم من صدق الإحساسات وصدق التعبير ورقة المشاعر، ويجمعون كذلك بأن القرن التاسع عشر جاء بمستويات هابطة جداً عن سابقيها، مالت فيه آفة الشعر إلى الابتذال والإسفاف والركاكة والتكلف والصنعة غالباً، ويقر الدكتور المقالح في كتابه (شعر العامية باليمن) بأن لغة الشعر العامي وحتى نهاية القرن التاسع عشر توقفت في حدود الاستخدام المباشر للفظ الفصيح أو السامي في حدود معانيه المعجمية المعروفة والمتداولة ولم تخرج من هذا الإطار، وفي حدود الاستخدام المباشر للاستفهام، وتوقفت الصورة في حدود التشبيه البسيط العادي ولم تتجاوزها.
ونعود بعد هذه القراءة المختصرة والمركزة في تاريخ الشعر العامي إلى موضوعنا إلى الشاعر الكبير القمندان الذي ظهر مع بدايات القرن العشرين ليضيف عطاءات شعرية عظيمة ورائعة وضعته في قائمة كبار الشعراء، بل ورائداً للتجديد في لغة الشعر العامي وموضوعاته وصوره، وهذا ما نحاول إثباته عبر استعراض عدد من النماذج الشعرية، وقبل الدخول إلى ذلك نود الإشارة إلى أننا ومن خلال تصفح ديوان الأمير القمندان يمكننا أن نلحظ وجود مستويين مختلفين تماما في مجال استخدام اللغة لدى هذا الشاعر نحددها بالآتي.
*المستوى الأول:
ويشمل قصائد البدايات للشاعر القمندان وهو يقرر ما يؤكد ميلاد موهبة شعرية جديدة ولكنها في حدود البدايات وتعكس مرحلة التأثر بالشعر العامي والفصيح المتدول والمنتشر حتى بدايات القرن، ويمكننا اعتبارها انعكاساً لوضعه لغة وصورة وشكلاً، ويظهر في قصائد هذا المستوى ركاكة اللغة واعتمادها على اللفظ العامي غالبا،ً بل وإسفافها أحياناً، يقول القمندان:
سرى العاشق سرى شنف ودرم
على رأس الحنش يدعس ونابه
حذر يابن الهوى تفزع وتندم
وذي قلبه ورش يغنم شبابه
وحد ظاهر وحد اص اص وبم بم.
وحر ذي تسمعه أذنه هرابه
وذا لامك وذا يجرد ويرطم
ولا تسمع ملامه أو عتابه
عليك الليل لا قدر وعتم
سرى زور الحبيبة والحبابة
وأبيات القصائد الفصحى للقمندان في بدايات كتاباته الشعرية متأثرة بالعقيدة الفصحى مع بدايات القرن بما ظهر عليها من زينة البديع وبما عانت من التكلف والصنعة والاهتمام باللفظ على حساب المعنى وغياب العاطفة، يقول القمندان:
روحها قدها سيفها لحظها
وطيفها لم يفارق إنسان
الأمان الأمان من سهام اللحظ الفتان
ليتها ليتها انصفت عبدها
في وعدها ساعدت بالأمان
ضدها قدرها تحت ظل الطرف النعسان
قل لها مالها خصرها قدوها
حودية من جولدي رضوان
مالها مالها في غوان الدنيا من ثان
وبرغم كل المآخذ والملاحظات على لغة الشاعر القمندان عند مستوى البدايات الا ان الشاعر القمندان استطاع ان يحدث تجديداً وتطوراً في مجال لغة الشعر وموضوعه في هذه المرحلة المبكرة من انتاجه الشعري.. ونشير هنا إلى ما خلص اليه الدكتور المقالح في كتابه (شعر العامية باليمن) بان القمندان يحتل المرتبة الاولى في مجال المعاصرة بين سائر شعراء اليمن من خلال استخدامه للالفاظ المعاصرة اولاً ومن خلال تناوله لموضوعات عصرية ثانياً، ولمزيد من الايضاح نقول:
1 - تناول القمندان قضايا عصرية وطنية وقومية حينها وبذلك يكون قد فتح ميداناً جديداً للشعر لم يكن مطروقاً من قبله وربط الشعر بعصره بعد ان كان فاقدا لهويته الزمانية والمكانية في الكثير من النماذج الشعرية من قبله.
2 - كان القمندان مجدداً بما ادخل إلى الشعر من مسميات لمخترعات علمية وصناعية حديثة مثل الطائرات، القطار، الترام، السيارة واجزاء السيارة، والبوصلة، وانواع الاسلحة، والعلوم والكيمياء وبما ذكر من رموز معاصرة عديدة وهو اول شاعر في اليمن ينحو هذا النحو.
*المستوى الثاني في لغة الشاعر القمندان:
ويبدأ هذا المستوى مع بدايات العقد الثالث للقرن العشرين تقريباً بالاستناد إلى تاريخ كتابة هذه القصائد في ديوانه، ويأتي هذا المستوى بعد ان اكمل الشاعر القمندان مراحل دراسته وتمكن من توسيع دائرة ثقافته في مجالات اللغة والتاريخ والسياسة، وتوسع دائرة اطلاعه في مجالات الادب العربي.. وتنتمي إلى هذا المستوى اشهر القصائد القمندانية ذائعة الصيت.. وتتجلى في قصائد هذا المستوى نضج موهبته الشعرية، وقدرته على حشد القوافي واستخدام اللغة، وقدرته على عكس ثقافته ورؤيته عبر اشعاره، وتبرز بوضوح مجالات التجديد التي حققها في ميدان لغة الشعر وصوره واشكاله.. الخ.
يقول القمندان:
اما انا لا فرقته ما يسعني الدار من حيث ولى وسار الجار من فرقة الجار
قلبي يوده ولا شي في المحبة عار / وان جيت بطل بوار / ماشي معي قلب صبار
متى متى واجهك واسمر مع السمار/ يومي جعلتك مزار / ماليلة الا ونا صار
إن الهوى في الحشاشة ما رحمها جار، وهي فؤادي الاخر / وعادة الحبس قهار
انذار حرب الهوى منكم يلي الإنذار / مالي سوى الانكسار / وودر النفس ودار
ويقول القمندان :
ياورد يا كاذي
ياموز يامشمش ياعنبرود
ياقمري الوادي
لك خد شامية وعين الهنود
يافل يانادي
قل لي ليالي الوصل شيب باتعود
بانجلي الصادي
ياسمهري القامة اسيل الخدود
إذا حدى الحادي ليلة
تذكرتك فرقت الرقود
نسيت ميعادي
من علمك لما خلفت الوعود
هناك نماذج جيدة كثيرة لا نستطيع ايرادها هنا وبشكل عام استطاعت قصائد هذا المستوى ان تقلص مساحة اللفظ العامي وان تبتعد عن الاسفاف والابتذال وان تميل إلى الفصحى السهلة والعامية الذائعة محلياً.. واستطاعت ان تدشن مرحلة الاستخدام الاستعاري للغة، واستخدام الموروث الرمزي وتجاوزته إلى توظيف رموز جديدة ومعاصرة ومبتكرة، وتوظيف رموز محلية، واستطاع ان يستخدم الالفاظ المناسبة للجو النفسي والفاظ ذات دلالات معنوية تساعد على تكثيف لغة الشعر، وتجاوز كثيراً حدود الاستخدام المباشر للفظ وتجاوز حدود الاستفهام المباشر إلى حدود الاستفهام الذي يحمل اغراضا بلاغية ويعبر عن حالات شعورية مختلفة وواسعة.
يقول القمندان:
لما متى دوب تهجرني وانا لوب
العين تبكي أسى والقلب منهوب
اتته عسل جرداني مرح مسكوب
ونا على هجرانك خاف باذوب
ليه دوب طبعك على المسكين مقلوب
قل لي على الذنب ياسيدي وباتوب
ليه تجفي العشاق ليه وانت محبوب
ونار قلبي من الهجران مشبوب
متى عسى نلتقي ياخير يعسوب
كفى كفى في الهوى من صبر أيوب
استطاع القمندان استخدام اللغة السهلة الممزوجة باحساساته المرهفة والرقيقة الصادقة واستطاعت هذه اللغة ان تحقق تلاحماً مع الناس وان تلامس مشكلاتهم ومعاناتهم بشكل أكسبها طابع التجربة العمومية ومنحها الخلود عبر الاجيال ولعل اسطع الادلة على ذلك كثرة القصائد القمندانية المغناة والمتداولة والمحبوبة بين عامة الناس داخل اليمن وخارجها.
يقول القمندان في قصيدته (قفيت ياناس ودمعي يسيل):
يابدر ياغصن يتخطر وطرفه كحيل
يامسك ياخل ياعنبر وصعده طويل
ياليتني صبح بلقاكم وبعد الاصيل
شي عاد يذكر عهودي والزمان الدويل
يهوين عذيتني يازين فرقك ثقيل
كنت اعهدك جيد وليش ردك بوصلك بخيل
وفين بلقى بدالك ان مثلك قليل
انته مطر جود ما يكفي بدالك وشيل
انته سلا القلب تشفي المحب الغليل
انته عنب بالحسيني او خريف الحبيل
انته عميل الصبا مابينت بعدك عميل
وانته مثيلك يقع معدوم او مستحيل
استطاع القمندان استخدام اللغة المطبوعة وابتعد عن التكلف والصنعة وابتعد عن مشكلات التناقر اللفظي، وابدع في استخدام اسلوب تكرار بعض الحروف والالفاظ والمقاطع لتقوية موسيقاه ومعانيه وابداع في اختيار قوافيه بل واظهر قدرة رهيبة على حشد القوافي وحسن اختيار حروف الروي وفي ديوانه أدلة قاطعة على كل ما ذهبنا إليه واستفاد مما تجيزه العامية من جوازات التقديم والتاخير والحذف ووظفها توظيفا مناسباً خدم إبداعه الشعري،.
واظهر القمندان تمرده على مناهج التقليد والمحاكاة وميله وحبه لارتياد دروب جديدة ومشرقة ومبتكرة.
اخيراً نقول ان القمندان استطاع ان يبني قصراً في واحة لحج الخضراء، وان يشعل مصباحاً، فأوت اليه القصيدة العامية اليمنية منهكة متهالكة، رثة الثياب، هائمة مجروحة برصاص قبائل اليمن مطاردة من العرب والعجم.. فاحتضنها القمندان واكرمها واطعمها من خيرات الحسيني، وغسل غبارها بمياه حسان العذبة، والبسها ثياب حقول الحسيني الخضراء المطرزة بأزاهيره ووروده البديعة، وعطرها باريج فله وياسمينه، واطربها بفضل اللحجي، وحرسها بهيثم عوض، فخرجت من قصره عروساً حسنة واذهلت عاشقيها، فسجدوا لها وكان القمندان اماً لشعراء القرن العشرين.
محمد فاضل حسين

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى