عبدالقادر بامخرمة.. المطرب الخجول.. صوت التراث وترانيم الأصالة

> مختار مقطري

>
مختار مقطري
مختار مقطري
صوته كصوت التراث ذاته وهو يغني، كترانيم الأصالة بنفسها وهي تترنم، ولكنه يجمع في صوته وفي عزفه المتفوق على آلة العود، وفي أدائه الفريد، إلى جانب سمات غناء التراث، سمات حداثية ولاتزال حداثية إلى اليوم، بما في صوته القوي والشجي والمميز بنكهة خاصة تميزه عن أصوات مجايليه، من قدرة على التعبير وتجسيد للمعنى، وفي رأيي أن غناءه غناء
قديم وحديث، ولكنه لم يبل لنحسبه من غناء التراث.
إنه الفنان اليمني الكبير الراحل عبدلقادر بامخرمة، أحد عمالقة جيل الرواد، مثله مثل العنتري، القعطبي. الجراش الماس، الباشراحيل. وغيرهم، وفي رأيي وحسب ذوقي الخاص، هو أفضلهم اختيارا وعزفا وصوتا وأداء.
عشقت فنه من أول أغنية سمعتها، من إذاعة عدن، عام 1976 (لقد زارني المحبوب)، فاستهواني صوته أولا، ففيه فخامة ورقة، وفيه شجن عاشق لم تسعده زيارة المحبوب، فظهر في صوته حزن ولوعة من دواخل نفسه، ومرح في الترخيم، وتلون في الانتقالات، كأن عشرة مطربين كبارا يغنون في أغنية مشتركة، يجانس بين أصواتهم، بإحساس مرهف، ثم أعجبني عزفه على العود، عزف رشيق ومتقن، فيه براعة العازف المقتدر والماهر، بزخارف تتدفق كأنها تنبع من نهر موسيقى، فكأنك تستمع لعزف تخت، فهو يوظف كل جزء في الوتر وكل تجويف على صفحة العود، وكم أطربني وأسعدني واستبد بي فرحا وحزنا وشعورا بالكبرياء والهوان العاطفي، نطقه لكلمة (يا سيدي) ففي نطقه لها تطريب شجي وفيه توسل ومناداة وترحيب ورجاء واستعطاف وهوان وفرحة باستجابة الحبيب، ولست مقتنعا بأن هذه الأغنية ظلت من اللون الكويتي، بعد أن غناها بامخرمة، فقد شحنها بما في وجدانه من أطياب الغناء اليمني فأصبحت يمنية.
وبعدها استمعت للكثير من أغانيه، فإذا هي من الألوان الحضرمي واليافعي واللحجي والصنعاني وغيرها، ولكن يرى البعض أن سبب شهرته الكبيرة، وتحديدا في أفريقيا، هو الأغنية ذات الطابع الهندي، التي كان يغني على إيقاعها قصيدة عربية، ولكن وهذا المهم، أنه كان يقوم بتعريبها أو بيمننتها، فهي بصوته وعزفه أغنية يمنية، ربما لأنه يتبع مدرسة الفنان الكبير الراحل محمد جمعة خان، الذي كان من ضمن مشاربه في الموسيقى والغناء الأغنية الهندية، أما البامخرمة فلم يتأثر إلا بالغناء اليمني، ورغم أنه ولد وعاش حياته كلها في جيبوتي، إلا أنك لا تجد تأثير الموسيقى والغناء الأفريقي في أغانيه.
ولد عبدالقادر بامخرمة عام 1926 وتوفي عام2007، في جيبوتي، وقد قضى جل عمره في تطوير ونشر الأغنية اليمنية، وهو من أصول حضرمية، والأسرة أسرة علم وفقه وأدب وتاريخ، لذلك واجه معارضة شديدة ضد شغفه بالغناء، من بعض شيوخها، على أنها لم تكن فقط معارضة فقهية تقضي بتحريم الغناء، بل كانت معارضة اجتماعية أيضا، ترى في الغناء اتهاما بالتكسب وامتهانا لوقار الرجل، وكان البامخرمة رجل فقه وأدب.
ومن المؤسف جدا، أننا لا نعرف عن تاريخ الأسرة الشيء الكثير، كيف انتقلت من حضرموت للاستقرار في جيبوتي ولماذا، وتاريخ رجالاتها، وأهم الأحداث في تاريخها، وكيف كانت طفولة فناننا، وكيف أولع بالعزف على العود وعلى يد من الفنانين تعلم العزف، وكيف ظل منذ طفولته مرتبطا وجدانيا بالغناء اليمني، ثم ما هي معاناته جراء الحصول على أغنية يمنية جديدة، الموضوع أكبر من مقدرتي حاليا، خصوصا وأن ما كتب عن جيل الرواد قليل جدا، أشهره كتاب (الغناء اليمني ومشاهيره) للفنان اليمني الكبير الراحل محمد مرشد ناجي.
يقول الأستاذ نجد اليافعي، في مقال له قرأته في النت: "إن البامخرمة ظهر بعد عدد من مجايليه، لكنه وبسبب براعته في أداء الأغنية ذات الطابع الهندي، حقق شهرة أوسع في جيبوتي وسواحل القرن الأفريقي"، وأنا أرى السبب في براعته في العزف وصوته القوي والمعبر وإحساسه المرهف بما يغني، وقبل أيام قليلة شاهدت له أغنية لحجية بالألوان سجلها ضمن سهرة فنية في تلفزيون عدن، (قال بو زيد )، من المكتبة الفنية للزميل الصحفي القدير جميل محسن، وشعرت بحيرة، هل هو أفريقي، أم عدني، أم لحجي، أم حضرمي.. إلخ؟ وأراحني الاهتداء إلى أن عبدالقادر بامخرمة، فنان يمني كبير بارع في غناء كل الألوان.
وكم أتمنى أن أجد تسجيلات يغني فيها لكبار مطربي العرب مثل أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب.
ويوصف عبدالقادر بامخرمة بـ "الفنان الخجول"، وهي ميزة كل فنان ينتمي لأسرة لها شأن كبير في علوم الفقه والحديث، وعلى قدر رفيع من التدين والمكانة العلمية والاجتماعية العالية، تعارض الغناء، ومع ذلك، يبدو أنه عانى الكثير في سبيل نشر وتطوير الأغنية اليمنية، وبسبب خجله لم يسجل أغانيه في إسطوانات، خوفا من المعارضة، لكن، ولأسباب نجهلها، كما نجهل كل شيء عنه تقريبا، وافق عام 1959(تقريبا) على تسجيل عدد من أغانيه لإذاعة عدن، بعد أن أهداها من قبل، مجموعة من أغانيه، كما أفادني نجله الأستاذ والفنان التشكيلي رفقي عبدالقادر بامخرمة، وزير الثقافة الأسبق بجيبوتي، مضيفا أنه رفض التسجيل إلا بعد منتصف الليل، ليضمن خلو مبنى الإذاعة من الموظفين، والسبب خجله.
كل هذا العطاء والتفرد والإجادة والشهرة وهو فنان خجول، ليت الخجل يصيب معظم فناني اليوم.
لقد أهملنا جيل رواد الأغنية اليمنية، وجيل فنانينا الكبار، لأسباب سياسية، ولقلة وفائنا وشدة جهلنا كذلك، وعليه أرجو، وبانتهاء هذه الحرب الملعونة، وعودة الحق لأصحابه، أن نبادر بإعادة ترتيب أوضاع أجهزة الإعلام لدينا وتطويرها، والانفاق بسخاء على برامج ثقافية ومسلسلات درامية تقوم بتعريفنا بعطاء وحياة جيل الرواد من فنانينا وأدبائنا وشعرائنا ومفكرينا، وفنانينا الكبار كذلك.
مختار مقطري

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى