الصورة الشعرية في شعر الأمير القمندان (2 - 2)

> محمد فاضل حسين

> جاء القسم الثاني من الوصف في شعر القمندان الغزلي في وصف حاله كما ذكرنا سابقاً في حال غياب أو بعد أو هجر أو نسيان أو جفاء حبيبته له. وقد حشد أوصافا عديدة منها (باكي، ساهر، منهوب، سلوب، مشجون، مقهور، مظلوم مبتلي، تائه، ملقاع، مشتاق، ضامي، مكروب، محنوب.. إلخ)، ونجده هنا يستخدم الأوصاف الحسية والمعنوية ولا يدخل في تفاصيلها ويترك للمتلقي كمال الصورة بما لديه من خبرة حياتية بهذه الأوصاف.
يقول القمندان:
مسكين ذا القلب ياما قلت له توبة * يبات مشغول فيه النار مشبوبة
ياحادي العيس ذكرته بمحبوبه * مجروح صابر حيا رابط على صوبه
يسامر النجم لا واعي ولا موبه * محنون مشجون دوبه مبتلي دوبه
وكانت أهم إنجازات الشاعر القمندان في مجال الوصف تلك اللوحات التي رسمها واستطاعت أن تجد مساحتها للتجاوز البيت الواحد إلى عدة أبيات، واستطاعت أيضا أن تجمع عناصر اللوم والصوت والحركة في وقت واحد وفي إطار لوحة موحدة ممزوجة بمشاعره وإحساساته المرهفة، وهي كثيرة في شعره ونادرة في إبداعات شعر العامية من قبله.
يقول القمندان:
في الحسيني سمت خيرة جماعة وأحباب * والسمر طاب طاب
يسحبوا الأنس بين الورد والفل سحاب * في جنائن عجاب
ثم صوت الرباب والعود الماء ينساب * والمطر والسحاب
وجاء القسم الثاني من الصورة في شعر القمندان عن طريق الاستخدام المجازي الاستعاري للغة. والصورة في هذا المجال لديه تتميز بالكثافة والتنوع الواسع، ولكنها تعاني من الجزئية، واستطاعت أحياناً أن تمتد لتشمل البيت كاملاً أو أكثر، وقد استطاعت أن تحقق نجاحات غير مسبوقة، وأن تحقق المشاركة التفاعلية مع المتلقي، والأمثلة كثيرة، نأخذ على سبيل المثال لا الحصر:
ياورد يافل ياكاذي وياغصن نرجسس
بس الجفا ياكحيل الطرف بس الجفا بس
حسن الهوى لوع الخاطر وحرق ومس
ساعة من الزين لو جادة مزونة شقائي
ومن قصيدة كف النياح:
اسكب على فرقهم يادمعي المهراق/ فراقهم لا يطاق/ يحرق القلب حراق/ من بعدهم كيف يسلى قلبي الخفاق/ سكران ما عاد فاق/ فرق الأحبة علي شاق/ ضاع الجمل بعدهم والحمل والأوساق/ حقيق ما هو نفاق/ وشاغل القلب سواق/ فيهم باهي المحيا بهجة الإشراق/ جواد يوم السباق/ بدر الرجى شمس لافاق.
ونجده في حالات عديدة يوظف اللغة توظيفاً بارعاً، بل ورائعاً، ساعد على إنتاج صورة شعرية جميلة مثال "حيده في المحبة زلب واينك وابن وامستلب لاروحك ولا بندقي"
اولاً من موسمك بيت لي راعد وبامطره"، والأمثلة كثيرة.
وإبدع القمندان جزء كبير من الصورة عن طريق استخدام الرمز واستخدام الأعلام التاريخية والحديثة والقصص التاريخية، ووظفها غالباً وفق توظيفاتها المتوارثة (فعنتر للشجاعة، ويعقوب للحزن، وأيوب للصبر، ولقمان للحكمة، وفرعون للقوة وقارون للمال.. إلخ)، ولكنه رجع في إكساب هذه الرموز والأعلام بريقاً جديداً أزال رتابة الناتجة عن كثرة استخدامها بما أضفى عليها من مشاعر مرهفة، وصاقة.
يقول القمندان:
صارت عيون المها قلبي بسهم المحبة
وبات ساهر أسير محبته أيش ذنبه
قهري على ذي سلب عقله وذي طار لبه
هايم قفا الزين شفا به حواسد وشاني
ووسع القمندان مجال إنتاج الصورة باستخدام رموز محلية من بيئته مثل "عسل جرواني، أو ظاهري، أو دوعني، فل، رطب، معصوبة، امشيك، مكركر، مضروب، قهوة ، كزاب.. إلخ". وتمكن من توظيف هذه الرموز وغيرها توظيفاً فنياً استعارياً، ومعها أسماء كثيرة لوديان وأفراد وقبائل ومنتجات زراعية، مواسم ونجوم، وهذا ساعد على توسيع مجالات إنتاج الصورة لديه.
وقام القمندان بتوظيف رموز قديمة وجديدة توظيفاً لم يسبقه إليه أحد، فكانت ابنته ملك الأرمن (شيرين) التي فضلها كسرى على غيرها من نساء الأرض رمزاً للجمال. ووظف من الرموز المعاصرة النحاس ومكرم، وهما زعيما حزب الوفد في مصر وظفهما رمزاً للسياسة وجلسات النقاش السياسي الممل والمكروه لديه.
يقول القمندان:
ياعاني تجمل سلم على الأحبة جم * بالشقر الذي حمحم
بالله قل لهم مهما طال البعد عنهم ثم * إن الوصل شيء محتم
باسمر معاهم وابا النحاس أو مكرم * هات لي خبرتي وسلم
ويقول القمندان:
قل لقمرينا بالسمر غرد ما نبا لا نهجع ولا نرقد
مالنا من بلقيس والهدهد والذي با يبرقو با يرعد
أخيراً
جاء في كتاب الدكتور المقالح (شعراء العامية في اليمن) أن الشاعر القمندان كان سبّاقاً إلى استخدام المعادل الموضوعي قبل ظهور نظرية (ت.س. اليوث) في الأربعينيات، وهذا يضع القمندان الرائد الأول لاستخدامه ليس في الشعر اليمني بل والعربي. والمعادل الموضوعي هو أن يستخدم الشاعر رمزاً معيناً ويتحدث باسمه ويختفي تحت هذا الستار، بينما هو في الحقيقة يعرض أفكاره ورأيه في الموضوع المطروح.
ففي قصيدة (هيثم عوض) تحدث الشاعر القمندان باسم هيثم عوض وهو حارس لأحد بساتين لحج ترك عمله ليلاً ليلتقي مع عشيقته فاتجهت الحيوانات السائبة إلى البستان فأتلفته وعبثت فيه. وهذا الحادث رفع القمندان إلى كتابة قصيدته هيثم عوض على لسان هيثم عوض شملت القصيدة الحديث عن الحب والدين. والحلال والحرام، وهكذا نجد القمندان استخدم هيثم عوض كستار، بينما كان يطرح أفكاره هو في هذه المسائل بدليل وحدة أفكاره في هذه القصيدة مع أفكاره المطروحة في هذه المسائل في قصائد أخرى.
محمد فاضل حسين

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى