رحلة إلى عالم شعراء الحب العذري

> د. عبده يحيى الدباني

> العذرية في الأصل هي نسبة إلى قبيلة (عذرة) العربية اليمانية التي كانت تحل في وادي القرى الذي يقع في الطريق بين المدينة المنورة والشام وقد نسبوا الحب الشديد المتطرف إليها فقالوا الحب العذري والغزل العذري والشعر العذري أي الشعر الذي يعبر عن شدة المحبة ورسوخها وعفتها فقد روي أن أحدا من أبناء (عذرة) وفد إلى المدينة المنورة فعندما سئل ممن أنت قال: أنا من قوم إذا عشقوا ماتوا فسمعته امرأة فقالت على الفور: إنه عذري ورب الكعبة!! وقيل لرجل من عذرة: مالكم تذوبون من العشق وتنماث قلوبكم فيه.. ألا تجلدون؟ فقال الرجل العذري: “إن في نسائنا صباحة وفي فتياننا عفة”، ويقصد بالصباحة الجمال، وعلى أي حال فظاهرة الحب العذري وشعره وقصصه لم تقتصر على عذرة في العصر الأموي ولكنها كانت ظاهرة سائدة في بوادي الحجاز ونجد بوجه عام ليس هنا مقام تفسيرها ثم إن المبالغة في العشق ظاهرة إنسانية عامة لم يخل منها زمان ولا مكان ولا مجتمع لكنها في مجتمع البادية العربية في عصر بني أمية كانت واسعة الانتشار وكان لها شعر يترجم عنها.
ولسنا هنا إلا بصدد الوقوف أمام أبيات سائرة من شعر الحب العذري نختزل من خلالها التجربة العذرية المتأزمة الجريحة التي أثرت الشعر العربي وكان لها قصصها وحكاياتها التي اختلط فيها الواقع بالخيال الشعبي الجمعي.
هذا الشعر المتوهج بالعاطفة المجنح بها الذي أصبح قاموسا للمحبين ورموزا خالدة تشير إلى النقاء العاطفي الفطري الذي لم تلوثه الحضارة أو المدنية وعقد الإنسان المكتسبة وتعقيد حياته، إذ قلما وجدنا ذكرا لـ“الخيانة” في الشعر العذري نظرا لانتفائها بين المحبين العذريين على ما في هذا الشعر والتجربة التي يعبر عنها من عيوب لا تنسجم مع رسالة الإنسان في الحياة كما أرادها الله تعالى.
فمن هذا الأبيات المعبرة المؤثرة قول مجنون ليلى:
صغيرين نرعى البهم ياليت أننا
إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم
فهذا البيت -على مافيه من سذاجة وفطرة- يعبر عن أزمة التجربة العذرية فقد أراد الشاعر من الزمن أن يتوقف هناك في الماضي البعيد الجميل ولكن هيهات، وهذا يدل على قدم المحبة بين العاشقين إذ تعود إلى أيام الصبا والرعي أو قل الطفولة مما أدى إلى رسوخها وديمومتها حتى استغرقت العمر كله، ويدل البيت على علاقة الشاعر العذري بالزمن فليس له منه إلا اللحظات الجميلة في الماضي البعيد أما الحاضر والمستقبل فقد باتا أسيرين لتلك النقطة الزمنية الموغلة في الماضي، كما يدل البيت على الحرمان والانقطاع بين المحبين فمجرد ما شب الفتيان حالت بينهما الحوائل ومنع الزواج واللقاء مما أشعل جذوة الهيام الشديد وبالتالي فقدان الإرادة لاسيما عند الرجل في ظل الفراغ الذي كان سمة الحياة في البادية فضلا عن اليأس والشعور العام بالإحباط والاغتراب فقد قيل في تعريف العشق أنه “حركة قلب فارغ” مع أن الزواج كان هو الحل الأساس لأزمات المحبين فقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا أرى للمتحابين مثل النكاح”، أي الزواج.
أما أبو صخر الهذلي فيقول في رائيته المشهورة:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
فصادف قلبا فارغا فتمكنا
فهذا البيت أيضا يدل على تبكير العلاقة وعلى الفراغ الذي كان يسود الحياة في البادية فما أن يلامس قلوبهم الحب حتى يجد ضالته فيهم ويتمكن منهم فتتسع دائرته وتزداد عمقا إذ لا شيء غيره ينافسه أو يزاحمه من اهتمامات الحياة الكثيرة الموجودة في الحياة الحضرية.
ويقول جميل بن معمر المشهور بجميل بثينة:
يقولون مهلا يا جميل وإنني
لأقسم مالي عن بثينة من مهل
أحلما فقبل اليوم كان أوانه
أم أخشى فقبل اليوم أوعدت بالقتل.
فأنت ترى في هذين البيتين مدى ما وصل إليه الشاعر العذري العاشق من هيام وفقدان إرادة وتعطيل للعقل وانعدام توازن لقد وصل إلى نقطة اللاعودة إذ شط به الهوى وذهب به كل مذهب وذللـه واستعبده فمن أين للهوى عقل؟ لا بل إن العقل والهوى أمران لا يجتمعان فإذا حضر الأول تراجع الآخر والعكس صحيح والإنسان الحقيقي السليم هو الذي يسيطر عقله على هواه أما الإنسان الضعيف أو الضال فهو الذي يسيطر هواه على عقله هذا من حيث المبدأ العام ولكن تبقى الأمور نسبية ومتفاوتة بين أقصى العقل وأقصى الهوى.
فجميل في بيتيه يكشف لنا كيف رفض التمهل والرفق في حب بثينة فقد أبى إلا أن يكون متطرفا لأنه قد مر بمراحل طويلة أوصلته إلى نهاية الشوط لقد ولى زمن الرفق والتمهل والتعقل والخوف من الأذى والقتل وجميل نفسه هو القائل:
ولو تركت عقلي معي ما طلبتها
ولكن طلابيها لما فات من عقلي
حيث صار الشاعر العاشق مخدرا أو سكرانا من جراء العشق، ولا عجب فالمخدرون أو السكارى من الناس كثيرون من غير أن يعاقروا الخمر، فهذا سكران بالمال وذلك سكران بالشهرة وآخر مخدرا بالسلطة والجاه وتلك مخدرة بالحسب والنسب وأخرى بالجمال والإعجاب بالنفس حتى لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ثلاث من المهلكات: هوى متبع، وشح مطاع، وإعجاب المرء بنفسه” وقد وصف الله قوم لوط بأنهم في سكرتهم يعمهون ولم يكونوا إلا سكارى بشذوذهم حيث تمكن منهم ووصف الناس بالسكارى يوم القيامة لأن عذابه جل جلاله شديد إذ قال تعالى: “وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد”.
وهذه أبيات محورية من الشعر العذري نتركها من غير تعليق نظرا لمقام المقال.
قال مجنون ليلى:
لقد ثبتت في القلب منك محبة
كما ثبتت في الراحتين الأصابع
وقال أحدهم هذا البيت المدهش:
وإني لمشتاق إلى ريح جيبها
كما اشتاق إدريس إلى جنة الخلد.
وقال نصيب بن رباح:
مساكين أهل العشق ما كنت أشتري
جميع نفوس العاشقين بدرهم.
وقال أبو صخر الهذلي:
تكاد يدي تندى إذا ما لمستها
وينبت في أطرافها الورق الخضر
وقالت امرأة عذرية:
ولو أن ما بي بالحصى فلق الحصى
وبالريح لم يسمع لهن هبوب
ولو أنني استغفر الله كلما
ذكرتك لم تكتب علي ذنوب.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى