في ظل غياب مقومات الحياة ووضع إنساني مزرٍ وغير مسبوق.. الحديدة.. صراع من أجل الحياة

> تقرير خاص

> تتوزع حزم الحطب في شوارع محافظة الحديدة، (غرب اليمن)، وبسعر مرتفع جداً، بعد أن أصبح بديلا اضطراريا يلجأ إليه السكان، نتيجة وجود أزمة خانقة في مادة الغاز المنزلي في المدينة، وارتفاع سعر أسطوانة الغاز الواحدة إلى 8000 ريال في السوق السوداء.
ومن يمر بشوارع المحافظة يُشاهد طوابير الرجال والنساء تمتد على طول الأرصفة، وصولاً إلى محطات الغاز، ناهيك عن العراك والدماء والاقتتال في أوساط تلك الطوابير في سبيل الحصول عليها.
أنين وأوجاع المواطن من الحرب ارتسمت على ملامح الإنسان التهامي المغلوب في أرضه وانطبعت على جدران المدينة، حيث ترك التهامي بصمة تاريخية بعلمه وثقافته، ومواقفه ونضاله، ليموت اليوم جوعا وفقرا.. مرض وشتات وضياع ونزوح وحرمان.. إنهم أموات على قيد الحياة في محافظة عُرفت بعروس البحر الأحمر.
فمنذ ما يقارب ثلاثة أعوام والتيار الكهربائي منقطع عن الحديدة، لتتوقف معه الحياة بتوقف المصانع والمنشآت وأجهزة المنازل، بل إنها جعلت السكان يعيشون تحت رحمة الحر الذي تصل درجة حرارته في الصيف إلى 45 درجة مئوية، فضلاً عن تسرح المئات من الموظفين من أعمالهم، وفرار الكثير من الأسر منها، وبقي فيها من لا سبيل له إلا الصمود في وجه الحرب.
إن البقاء على قيد الحياة في هذه المدينة بات صعبًا للغاية، ويتطلب ثمنًا باهظًا في ظل سلطة أمر واقع تقتات خيرات المواطن، وتزج به في حياة البقاء فيها شبه مستحيل، فقط بنفسه الطويل يصرخ في وجه الظلم "أريد البقاء".
*موتى بسبب الجوع
العيش بوجبة واحدة في اليوم هو الحال السائد لمعظم أُسر المدينة، وأطفال ينفضون براميل القمامة بحثًا عن خبز منسي أو بقايا فاكهة عبث بها طفل لم يذق الجوع ولم تصله سياط الحرب بعد، فالارتفاع الجنوني في أسعار المواد الغذائية، بسبب اختفاء المشتقات النفطية وارتفاع سعرها في السوق السوداء، يُنذر بكارثة جوع تشهدها الحديدة.
وبحسب إحصائيات أممية فإن نحو 70 % من سكان البلد بحاجة لمساعدات إنسانية عاجلة، أي ما يعادل 20 مليون نسمة.
فتاة تعاني من سوء التغذية تجلس على مقعد خشبي في قرية ساحلية فقيرة بمدينة الحديدة
فتاة تعاني من سوء التغذية تجلس على مقعد خشبي في قرية ساحلية فقيرة بمدينة الحديدة

قبل حوالي شهرين وجد السكان مُسنة ميتة في منزلها الشعبي الكائن في حارة اليمن إحدى حارات مديرية الحالي مركز المحافظة، ولم يدلهم على موتها إلا رائحة جسدها المتعفن في منزلها المغلق لأسبوع.
فارقت الحياة بسبب الجوع والفقر المدقع حسب قول سكان الحارة، بعد أن هاجر أبناؤها إلى مدينة أخرى وتركوها وحيدة تقاوم الجوع والحرب حتى ماتت جوعا”.
قلة حيلة
أما الحاج أحمد وهو أحد سكان حارة البيضاء فعّبر لـ«الأيام» بلهجته التهامية البسيطة عن وضعه المأساوي بالقول: "صبرنا على انقطاع امكهرباء وتحملنا امفقر واماء أزمة.. وامحمى أكل جلودنا بس امجوع ماحد بيقدر له هو بيقضي علينا".
ويعمل الحاج أحمد رغم كبر سنه في عربة صغيرة يتجول بها بائعا للموز، في عينيه يلمع الخوف من شبح الجوع الذي باستطاعته قتل سكان المدينة إن طال أمد الحرب” على حد قوله.
ويشير إلى أن "سعر الحزمة الحطب وصل إلى الفين ريال بعد أن كانت بـ500 ريال قبل ارتفاع سعر الغاز وصعوبة الحصول عليه، الأمر الذي جعل المواطن يلجأ إلى الاحتطاب لطهي الطعام، وشراء التنورات الترابية التي ارتفعت أسعارها هي الأخرى.
زاد الأقبال على شراء الحطب من قِبل المواطنين وأصحاب المحلات والمطاعم التي تستغرق الكثير من الحزم كبديل عن الغاز، لتصبح المدينة مليئة بالشاحنات التي تجلب الحطب من الريف، وبات أكل المطاعم وخبز الأفران مشوب ببقايا الفحم ورائحة الدخان، لتتحول معه ملامح المدينة إلى ريف بحت.
*أمراض قاتلة
تقلب الطقس في المحافظة وتواجد البعوض بشكل كبير في أحيائها، وأدخنة المخازن التابعة للمليشيات الانقلابية التي يستهدفها الطيران، ولّد أمراضا قاتلة في أوساط المواطنين، كمرض الملاريا الذي انتشر في المدينة بشكل كبير، واكتظت على إثره المراكز الطبية بالمرضى.
ويزداد هذا المرض بشكل ملحوظ، نتيجة لتكدس القمامة والمياه الراكدة وقلة النظافة والتحسين في الحارات والأحياء، الأمر الذي جعل المدينة بيئة مناسبة للبعوض، وبات المواطن فريسة لعديد من الأمراض الفتاكة كالكوليرا الذي خلف حالات وفاة في صفوف سكان المدينة، مع صعوبة حصولهم على الأدوية وعدم قدرتهم على شرائها.
طفل يعاني من سوء التغذية يتلقى العلاج في مستشفى بمدينة الحديدة
طفل يعاني من سوء التغذية يتلقى العلاج في مستشفى بمدينة الحديدة

الدفتيريا مرض آخر يُعاني منه أيضاً سكان هذه المدينة بعد تفشي الكوليرا والملاريا وحمى الضنك، وهو مرض بكتيري معدٍ، تؤدي الإصابة به إلى التهاب اللوزتين والبلعوم والحنجرة أو الأنف، وقد تسبب الإصابة الوفاة نتيجة انسداد مجرى التنفس، بحسب منظمة الصحة العالمية.
ليصبح المواطن في الحديدة فريسة للأمراض والأوبئة التي أنتجها الوضع المأساوي الذي تعيشه المدينة.
وتعمل المنظمات الإغاثية جاهدة على محاربة هذه الأمراض وتقديم المساعدات الإنسانية للمواطنين، غير أن المليشيات الانقلابية استحوذت عليها وحولتها كمساعدات لأفرادها، وتكديسها في مخازن تابعة لها.
*حالات إنسانية صعبة
الطفلة أحلام ذات الحادية عشرة سنة، عجزت أسرتها الفقيرة عن دفع إيجار المنزل الذي تسكنه منذ ثلاثة أعوام، بعد توقف الرواتب، لتجبر أسرتها على شراء بقعة أرض بجانب أحواض المجاري البعيدة قليلًا عن المدينة، حيث الكثير من الأسر التي فرت من سعير الحرب، وقلة حيلتهم بالعيش في المدينة.
طفلة تعاني من سوء التغذية
طفلة تعاني من سوء التغذية

ويحيط هذه المنطقة مصانع تنبعث منها أدخنة وغازات سامة إلى جانب الرائحة الكريهة المنبعثة من أحواض الصرف الصحي، ويحيطها أيضًا محرقة لنفايات المدينة، الأمر الذي يجعلها منطقة غير صالحة للعيش، إلا أن وضع الحرب جعل العشرات من الأسر مجبرة على السكن فيها.
الطفلة أحلام إحدى ضحايا الأمراض الناتجة عن التلوث بالمنطقة، تقول والدتها لـ«الأيام» اُصيبت أحلام بمرض الكوليرا عدة مرات، وتُعاني من إسهالات مائية وقيء متواصلين، وبمجرد أن ينتهي علاجها وتبدأ تتعافى تعود لتمرض من جديد".
وتواصل الأم المغلوب على أمرها حديثها بحرقة، بلهجتها البسيطة "امدكاترة قالوا لنا غيروا امسكن.. هذا امكان بيخليكن معرضين للأمراض .. لكن ما نهب من يان نجيب حق امإيجار وابني وزوجي موقفة رواتبه.. ما نعمل؟!".
ما نعمل؟! .. هي لغة سكان الحديدة الذين عجزوا عن إيجاد حل لِما تمر بها محافظتهم، والتي جعلتهم يتخبطون بحثًا عن لقمة عيش ومأوى بعيدًا عن هم الإيجار، ليصبحوا عرضة للأمراض والأوبئة بسبب الأوضاع التي تعيشها محافظة الحديدة منذ ثلاث سنوات.
*أزمة مياه خانقة
مع انعدام المشتقات النفطية في الحديدة تتوقف مضخات مؤسسة المياه عن ضخها للمياه لأحياء المدينة، الأمر الذي يُضيّق الخناق على المواطن، لاسيما أن المحافظة شديدة الحرارة ويزيد على إثرها الاحتياج للماء بدرجة كبيرة جدا، وهو ما أجبر المواطنين على شراء “دينمات” تعمل بالطاقة الشمسية كمصدر بديل ليتمكنوا من شفط الماء وتعبئة الخزانات والبراميل تخوفًا من انقطاع الماء لعدة أيام.

ويوضح أحد الموظفين في مؤسسة المياه لـ«الأيام» أن نقص المضخات وتعطل بعضها وعدم توفر المشتقات النفطية لتشغيلها ساهم في خلق أزمة ماء خانقة بالمحافظة، الأمر الذي لجأ بسببه الكثير من المواطنين في الأحياء الشعبية لحفر آبار في فناء منازلهم والاعتماد عليها خصوصًا في فصل الصيف الذي تشتد فيه أزمة المياه الخانقة".
ويضيف: "في الأحياء الشعبية وكثير من شوارع المدينة يقوم السكان بحفر حُفر كبيرة بحثًا عن مواسير الماء لكسرها وتوصيلها بأنابيب بلاستيكية لشفط الماء منها، نتيجة ضعفه وعدم وصوله للخزانات والبراميل الخاصة بهم، وهي مشكلة يواجهها سكان المدينة".
أما الحاجة حسناء وهي إحدى سكان أرياف المحافظة، فشكت حاجتها الماسة للماء بالقول: “الماء عندنا ما يصل والآبار عندنا ما فيهاش ماء، وما حد مهتم بنا وبحالنا، والله إني أخاف أموت ويودوني القبر بدون غسلة!". جملة لخصت مأساة المواطن التهامي الباحث عن خدمة الماء.
*صراع من أجل البقاء
ساهمت الكثير من المنظمات في توفير الخزانات للمواطنين في بعض المناطق، للتخفيف من أزمة الماء، بعد أن قامت بتعبئة الخزانات بالمياه لبعض السكان، غير أن الكثيرين لم تصلهم تلك الخزانات بسبب الفساد التي تنتهجه المليشيات باختطافها للمساعدات الإنسانية وتضييق الخناق عليها.
ومع تفاقم أزمة الماء في هذه المحافظة التي كانت تُعد من أكثر المحافظات وفرة بها على خلاف صنعاء وتعز و غيرهما، ضاعفت الوجع لدى سكانها في ظل موجة الحر الشديدة التي تساهم في ازدياد حاجة المواطن لهذه الخدمة.
بل إن الماء بات منقطعاً عن بعض الأحياء بوسط المدينة لأكثر من خمسة أشهر وأخرى لم يصلها منذ اندلعت الحرب، في ظل تدهور لحال المؤسسة وخروج كثير من موظفيها بسبب توقف الرواتب والبحث عن أعمال وأشغال توفر لقمة العيش لهم ولأسرهم.
ويزداد تدهور الوضع الإنساني فيها يومًا بعد يوم، وتزداد على إثره مشاكل الحياة، ليضحى المواطن فيها يصارع من أجل البقاء والبقاء فقط.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى