شاعر الأجيال الأستاذ أحمد الجابري

> جلال عبده محسن

>
كثيرا ما يعجب المرء بشخصيات وقامات إبداعية لها إسهاماتها وبصماتها الواضحة في حياتنا، سياسية كانت أو ثقافية أو اقتصادية أو غيرها من المجالات الأخرى، وليس بالضرورة أن نكون قد قابلناهم أو التقينا بهم في حياتنا، ولكن الضرورة هنا أن تكون أعمالهم وإسهاماتهم تلك لها تأثيرها الواضح على حياتنا وتشكل قيمة بالنسبة لنا ويستنفع بها الآخرون والمجتمع بشكل عام.

وإذا ما شاءت الأيام والصدف للالتقاء بهم وجها لوجه فاننا حتما سنجدها فرصة سانحة للتعرف بهم عن قرب وعلى لسانهم قد نعرف المزيد، لتزداد معرفتنا بهم لميزة قد نكتشفها عن طريق الملامح أو نبرات الصوت أو الشعور بالأحاسيس، فتترسخ لدينا حينها انطباعات أخرى كانت غائبة عنا قبل معرفتنا بهم.

هذا ما حدث معي وأنا اسمع منذ الصغر عن الشاعر الكبير الاستاذ/ أحمد الجابري، احد كبار شعراء الغناء منذ خمسينات القرن الماضي، ومن شعراء العامية والفصحى البارزين والذي استطاع ان يفرض نفسه كشاعر سعى جاهدا إلى تشكيل عالم خاص يتميز به في مملكة الشعر الرحيبة، من خلال قصائده الغنائية والتي هي ثمرة شاعرنا التي كان يقطفها وهي ناضجة وبقدر ملامستها للواقع ولإحساس الناس ولهمومهم يكون جمالها ورونقها.. كيف لا وقد أشجانا بأعذب الكلمات والألحان التي تغنى بها اساتذة الطرب والغناء كالفنان احمد قاسم والمرشدي وأيوب طارش وعبدالرب ادريس ومحمد عبده زيدي وغيرهم الكثيرون.

ومن منا لا يتذكر اغنية: اخضر جهيش مليان، والمي والرملة، وعدن عدن، ويامركب البندر، وعلى امسيري، ولمن هذه القناديل، وخذني معك، وغيرها الكثير والكثير من الاغاني التي تصدح بها الاذاعات والقنوات الفضائية واشرطة الطرب اليمني، ويتلهف كل من سمع عنه ويعرفه إلى لقائه.
شخصيا كان كل ما ينقصني عنه هو شرف اللقاء على الرغم من صلة القرابة التي تجمعنا، وقد استجابت لرغبتي الايام ذات يوم، حيث جاءت فكرة اللقاء سريعة وعن طريق الصدفة غير المتوقعة ومن دون سابق ترتيب، ولم اتردد حينها بالاتصال بزميل العمر الاستاذ/ علي عبدالمجيد، الشخصية الاجتماعية المعروفة، كعادتي عندما ازور منطقة الشيخ عثمان لنحضر معا عدة لقاءات ولا زلت اتذكر لقاءنا الاول ومن الوهلة الاولى وانت تعانق شاعرنا الكبير يجعلك تحس وكأنك تعرفه منذ امد بعيد، حيث تبدو على ملامحه البساطة وعدم التكلف، متواضع في سلوكه وخلقه، يدل مظهره الانيق على سنوات اقل من عمره الحقيقي.

وبأسلوبه الهادئ تركنا الفنان العنان لخياله الابداعي للحديث عن تجربته في الحياة، والذي بدوره نقلنا إلى الماضي الجميل منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وهو يتحدث برصانة وتحفظ تنم عن ثقافة عالية واطلاع واسع، حيث لا يبدو في حديثه اللامبالاة في انتقاء الالفاظ المناسبة، أو الاعجاب بالذات وهو يتنقل بنا من محطة إلى اخرى ومن موضوع لآخر دون صعوبة في المجال الذي برع فيه وهو الشعر والأدب ليمتد إلى مجال الاقتصاد وهو مجال تخصصه في ادارة الاعمال من جامعة القاهرة، مستخدماً قدرته التعبيرية للغة، ومهاراته وملكاته الادبية والتي قادر بها على قراءة الواقع الفني والثقافي وتشخيصه بقوة الإقناع وبشاعرية رائعة وإحساس مدهش دون ان تبدو عليه الفتور وقلة الاهتمام كما هو الحال عند الحديث عن السياسة. وبعد ان احدث فينا حالة من المتعة والبهجة والسرور سرعان ما عاد بنا إلى الحاضر وهو يتحدث بالم وإحباط عن واقع الحال وعن النكران والجحود من البعض وعن وضع صحي واسري مؤلم منذ ان عاد إلى ارض الوطن، ومن اناس كان يكن لهم كل المودة والحب، الامر الذي ضاقت به المدينة عدن التي عشقها وحلم بها ذات يوم بان تكون مسير يوم، وآثر على نفسه الوحدة والانطواء في صومعته بمنطقة الراهدة بعيداً عنها، ومع ذلك لا زالت عدن تسكنه ويسكنها، ولا زالت (المي والرملة) ابرز معالمها شاهدة على حب الرجل لها حتى اليوم وهو في سنوات عمره المتقدمة، كما كانت شاهدة على ذلك من قبل في صباه، ومع كل آلامه وجراحه وامتعاضه يظل الرجل متماسكا وشامخا بقلبه الكبير وابتسامته التي تقاوم كل الاحزان والآلام وستظل سيرته العطرة تتناقلها الاجيال، وسيظل التاريخ منصفا له بقدر اعماله وإسهاماته الذاتية لذلك الكم الهائل من قصائده الشعرية العاطفية والوطنية ومجموعة رباعيات ودواوين لم تطبع بعد إلى يومنا هذا، والتي تصلح كل منها ان تكون لوحة فنية بحالها، وكان الاصل بالنسبة لي في هذا اللقاء اكثر ثراء من الصورة وكان من الانصاف الحديث عن احدى القامات الثقافية والادبية وهي على قيد الحياة لنعطي للناس الانطباع بأن عمل هؤلاء وادوارهم التي قاموا بها طيلة سنوات عطائهم هي محل تقدير واعتزاز، وان مصدر السعادة بالنسبة لهم هو وصول التكريم إليهم دون ان يسعون إليه او يلهثون وراءه.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى