(إلى عرفات الله)

> مختار مقطري

> (التقاء البعد الديني والبعد الوطني) في أغنية واحدة
 غنت ام كلثوم، طوال مشوارها الفني، نحو ستين عاما، اكثر من 85 قصيدة فصيحة، من الشعر القديم وحديثه، ولابد ان يكون امير الشعراء احمد شوقي واحدا من الشعراء الذين غنت قصائدهم، ليس لأنها كانت من اشد المعجبين بشعره، ولكن للمضامين الدينية والوطنية في قصائد شوقي، التي اختارتها للغناء، لكن اول قصيدة غنتها لشوقي كانت غزلية، كتبها شوقي في ام كلثوم نفسها، ليصفها وهي تغني، وهي(سلوا كؤوس الطلا)، ثم غنت له على التوالي:(سلوا قلبي، نهج اابردة، الهمزة النبوية، الى عرفات الله)، وبعد الثورة المصرية عام 1952م، غنت له قصيدتي(السودان
و الجلاء)، وكل هذه القصائد، تعد من عيون الشعر العربي الكلاسيكي الحديث، وصعبة في الغناء)، لكن ام كلثوم بعبقريتها جعلتها اغاني طربية، ولكن بسمو وتجليات فريدة في فن التطريب، يطلبها الجمهور من ام كلثوم في الحفلات العامة، وقد اسميتها انا (معلقات ام كلثوم) التي لا ينجح في غنائها احد غير ام كلثوم.
والقصائد الاربع الاولى، غنتها ام كلثوم خلال سنوات الاحتلال البريطاني لمصر، وبعد الحرب العالمية الاولى، وقد جمع شوقي فيها بين البلدين الديني والوطني، وهذا ما كانت تبحث عنه ام كلثوم، لتستثير الهمم، وتوحد العزائم، وتنادي الشعب لينأى عن التخاذل، وتوقظ مشاعره العقائدية والوطنية الداعية للحرية والاستقلال، ووجدت في شعر شوقي قوة الكلمة لتوصيل هذه المعاني، كما وجدتها في شعر غيره، مثل الشاعر الباكستاني محمد اقبال، الذي غنت قصيدته (حديث الروح) في عام 1967، واختارت من القصيدة من ضمن ما اختارته للغناء هذه الأبيات:
اذا الايمانُ ضاعَ فلا امانٌ
ولا دنيا لمن لم يُحي دينا
ومن رضِيَ الحياةَ بغيرِ دينٍ
فقد جعلَ الفناءَ لها قرينا
وفي التوحيدِ للهممِ اتحادٌ
ولن تبنوا العلا متفرقينا
 ان معظم القصائد الفصيحة التي غنتها ام كلثوم، لشوقي ولغيره، لم يكن يعرفها معظم الشعب العربي، غير الأدباء والمثقفين، ولا يعرف اسماء اصحابها من الشعراء، لكنها جعلت القصيدة الفصيحة مرددة فيالشفاه، وصاحبها معروفا عند الناس، ولأم كلثوم ادوار عظيمة.. دينية ووطنية وثقافية وموسيقية وفنية وغيرها، ناولتها من قبل، ولا مجال لها هنا.
وقصيدة (الى عرفات الله)، كتبها احمد شوقي عام 1910 وغنتها ام كلثوم عام 1951، وتعد واحدة من معلقات ام كلثوم الغنائية، وقد حققت نجاحا جماهيريا كبيرا في كل البلاد العربية، وقد غنتها في حفلات كثيرة، بإلحاح من الجمهور.
وقد احسنت ام كلثوم، كعادتها، الاختيار من القصيدة، ابياتا تجمع بين ما هو ديني وما هو وطني، وام كلثوم تختار اولا البيت الاول، وهو في (عرفات):
الى عرفات الله يا خير زائرٍ
عليك سلام الله في عرفاتِ
ثم اختارت ابياتا تصف بعض المعالم الدينية المقدسة، في الحرم المكي الشريف، والمعاني الانسانية العظيمة من أداء فريضة الحج، منها:
ويومَ تولّي وِجهة َالبيتِ ناضرا
وسيمَ مجالِ البشرِ والقسماتِ
على كل أفقٍ بالحجازِ ملائكٌ
تزفّ تحايا اللهِ والبركاتِ
لدى البابِ جبريلُ الأمينُ براحهِ
رسائلُ رحمانيةُ النفحاتِ
وفي الكعبةِ الغراءِ ركنٌ مرحبٌ
بكعبةِ قُصّادٍ وركنِ عُفاةِ وزمزمُ تجري بين أعينك اعيناً
من الكوثرِ المعسولِ مُنفجراتِ
لك الدينُ ياربَّ الحجيجِ جمعتهم
لبيتٍ طهور ِالساحِ والشرفاتِ
تساووا فلا الأنسابُ فيها تفاوتٌ
لديك ولا الأقدارُ مُختلفاتِ
وتنتقل بعد دلك الى البعد الوطني، المنبثق من المعاني الدينية السابقة، في ابيات رائعة منها:
ويارب هل تُغني عن العبدِ حجةٌ
وفي العمرِ ما فيهِ من الهفواتِ
وتشهدُ ما آذيتُ نفساً ولم أضِر
ولم أبغِ في جهري ولا خطراتي
ولا حملت نفسٌ هوىً لبلادها
كنفسيَ في فعلي وفي نفثاتي
وانت وليُّ العفو فامحُ بناصعٍ
من الصفحِ ما سوّدتُ من صفحاتي
وهكذا جعلت حب الوطن والولاء الوطني، جزءا من المقدس، مثله مثل العقيدة الدينية.
وفي الأبيات الأخيرة التي اختارتها، تنقل الجمهور من الحرم المكي الشريف، الى المسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة، وتقف معه امام قبر الرسول، عليه الصلاة والسلام، تشكو له حال المسلمين، وما اصابهم من ضعف وفرقة وانهزام، في موقف يجعل المستمع تدمع عيناه، من روعة ورهبة صوتها وغنائها الاعجازي الفريد والمؤثر، وبها اختم مقالي، داعيا كل من يغني هذه الايام للاستماع لام كلثوم.
اذا زرتَ بعد البيتِ قبرَ محمدٍ
وقبّلتَ مثوى الأعظمِ العَطِراتِ
وفاضت من الدمعِ العيونُ مهابةً
لأحمدَ بين السترِ والحجراتِ
واشرقَ نورٌ تحت كل ثنيّةٍ
وضاعَ اريجٌ تحت كل حصاةِ
فقل لرسولِ اللهِ يا خيرَ مُرسلٍ
ابثّكَ ما تدري من الحسراتِ
شعوبُك في شرقِ البلادِ وغربها
 كأصحابِ كهفٍ في عميقِ سُباتِ
بأيمانهم نوران ذكرٌ وسُنةٌ
فما بالهم في حالكِ الظُلُماتِ
وقل ربي وفّق للعظائمِ امتي
وزيّن لها الأفعالَ والعزماتِ
رحم الله أم كلثوم

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى