الواحدة بعد منتصف الليل

>
​أخطأتْ أصابعُهُ وجهتَها بينما كانت تتحسس نظارتَهُ في الظلام حينَ قادتهُ الصدفةُ إلى صورةٍ قديمةٍ كانَ قد رماهَا في إحدى رفوفِ المنزلِ لتشيخَ بعيدةً عن أنظارِه.

لم يستطع أن يتمالكَ نفسَهُ وهو يزيحُ كلَ تلك الأتربة العالقة عليها وكأنّما ينفضُ الغبارَ عن قلبِهِ بعد أن تكشفَ لهُ شيءٌ مِن ملامحِ حبيبته «سما» ..ارتعشتْ أطرافُهُ وتدفقتْ خفقاتُهُ بشدة.. كانت الذكرياتُ أسرعَ وصولاً مِن كرياتِ دمه.. مضت سبعُ سنين على رحيلِ تلك الملائكية التي سلبتهُ عقلَهُ وأسقتهُ يوماً مِن نبيذِ الحب..التقطَ منديلَهُ الأحمرَ مجففاً بهِ ما تبقى مِن عرقِهِ ثمَّ نهضَ محاولاً استعادةَ وعيِّهِ بعدَ أن وضعَ الصورة بينَ صفحاتِ روايةٍ قديمة كانَ قد أنهى مراجعتَها قبلَ يوم..خطواتٌ قليلة تفصلُهُ عن سريرِهِ الصغير.

ورغمّ أن الوقتَ كانَ قد تأخرَ كثيراً إلا أنّهُ لم يكن يشعرُ برغبةٍ في النوم..تهالكت قواهُ وهو يبحثُ عن نظارتهِ لذا قررَ الجلوسَ على كرسيهِ الخشبي وإخفاض ضوءِ المصباح قليلاً ثمَّ الذهابَ بعيداً في خيالِه.. شتت سما تفكيرَهُ ذلك المساء؛ عجزَ عن حياكةِ قصةٍ تناسبُ روايتَهُ الجديدة..كلما لمعت في رأسِهِ فكرة وبدأ يرصُ الأحجارَ لبنائِها تظهرُ سما محطمةً كلَ شيء..تأففَ مراراً وغَيّر طريقةَ جلوسِهِ مراتٍ عديدة حتى أصابَهُ اليأسَ وأعجزتهُ سما.
نهضَ مسرعاً لارتداءِ معطفِهِ القطني بعدَ أن عزمَ الأمرَ بالخروجِ والتجولِ ليلاً في شوارعِ  مدينتِه.

الواحدةُ بعدَ منتصفِ الليل.. الظلامُ حالكٌ الليلة!!
كثيرةٌ هي المصابيحُ التي تضررت بعدَ القصفِ على أحياءِ هذهِ المدينة..أخرجَ هاتفهُ الخلوي ليستعينَ به في الشوارعِ التي تخلو مِن مصابيحَ سليمة أو حتى مِن أضواءِ السياراتِ والمنازل.

تبدو المدينةُ كئيبةٌ جداً!!! لازلت بقايا الحرب عالقةٌ ع جدرانِ هذه المباني ورائحةُ البارودِ طالعةٌ منها أيضا..

هدوءٌ مخيف!!!  يدفعكَ لسماعِ صراخِ الموتى المدفونين تحتَ أنقاضِ هذهِ المدينة والذين راحوا ضحايا جرائمَ كانت الأبشع.. «انهُ جسرُ المدينة!!!» ينظرُ إلى الأعلى بعد أن انطبعت ابتسامةٌ خفيفةٌ ع وجهه.
لطالما كانت سما تعشقُ هذا المكان.. كانت تروي لي قصصاً وأساطيرَ غريبةً عنه.

قالت مرةً إن أحدهَم سمعَ صوتَ غناءٍ صادر مِنه بعدَ منتصفِ الليل، وعندما قتربَ رأها امرأةً بشالٍ أحمر ترقصُ بشغفٍ هناك.. أقتربَ منها أكثر، وأكثر، ثمَّ أكثر.. حينها ماذا حدث؟!!
- بووووووووووم ماذاااااااا؟!! أفزعتني!!!
- لا شيء!!

وأردفتها بضحكةٍ لطيفةٍ بعد أن انطلت الخدعةُ عليهِ وأفزعتُهُ قليلاً.. في اللحظةِ التي كان يحاولُ فيها عقدَ رباط حذائهِ بعد أن انفَك رأى شعاعاً ساقطاً مِن السماءِ نحو الجسر.
لا بأس، لا تخف،لا شيء يستحق الذعر . ابتلعَ ريقَهُ وفركَ عينيهِ جيداً متذكراً أن سما كانت تمازحُهُ وحسب، ثمَّ أنّهُ لا يرتدي نظارتَهُ اليوم.

وبينما هو كذلك سمعَ صوتاً مدوياً لامراةٍ تصرخُ بأعلى صوتِها،اختطفَهُ الصوتُ مِن مكانهِ وأخذهُ إلى حيثُ سقطَ ذاكَ الشعاعُ فوقَ الجسر.

ركضَ بسرعةٍ فائقة حتى اجتثَ على ركبتيه، شابٌ في العشريناتِ من عمرهِ كان مَلقِياً على الأرضِ وشالٌ أحمر يطوقُ عنقَه،هزَ جسدهُ مراراً وحاولَ إيقاظَهُ لكن،لا جدوى، كان يبدو عليهِ أنهُ فارقَ الحياة، وهو يَهِمُ بإخرجِ هاتفِهِ الخلوي ليتصلَ بالإسعافِ فكرَ أن يسحبَ محفظةَ الشابِ مِن جيبهِ لعلّهُ يجدُ فيها ما يُمَكِنهُ مِن التعرفُ عليه، مدَ أصابعَهُ نحو جيبِ بنطالِهِ ليتفاجأ بهِ يستيقظُ فجأةً مُمسكاً معطفَهُ بقوة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى