التضخم الجامح في اليمن يسير بأقصى سرعته

> د. محمد الميتمي*

>
هوى الريال اليمني أمام سلّة العملات الأجنبية، خلال اليومين الماضيين، مسجلا أدنى مستوى في تاريخه، بوصول الدولار الواحد في السوق السوداء إلى 760 ريالا في مدينة عدن، العاصمة المؤقتة في جنوب البلاد. ويضاعف انهيار الريال من قلق اليمنيين الذين يعيشون أوضاعا معيشية وصحية صعبة، يضاعفها الوضع الاقتصادي، ولم يستلم أغلب الموظفين مرتباتهم منذ أكثر من عامين، حيث يعاني أكثر من 22 مليون شخص من الفقر وهم بحاجة إلى مساعدات فورية.

تتآكل قيمة الريال اليمني، مقوّمة بالدولار وسلة العملات الرئيسية، بصورة مقلقة. وتهدد معدلات انهيارات الريال المتسارعة ما تبقى من وميض خافت للعيش دون المستوى المقبول للملايين من اليمنيين ويجرّدها مما تبقّى لها من أصناف قائمة الطعام القليلة والتي تتوارى من مائدتها مع كل ارتفاع معدلات التضخم.

وانخفضت قيمة الريال بمعدل أكثر من 200 بالمئة خلال أقل من سنتين ليصل إلى 770 وحدة محلية مقابل الدولار مع نهاية سبتمبر من العام الجاري، وتبلغ معدلات التضخم السنوي اليوم أكثر من 40 بالمئة على أقل تقدير.
وكمحصلة لهذا الانهيار المتسارع تدافعت أسعار السلع والخدمات إلى الأعلى لتنطلق معها موجة من التضخم الجامح الذي ندر حدوثه في اليمن. ومن المؤكد أن يدفع هذا التآكل المحموم لقيمة الريال ملايين إضافية من اليمنيين إلى حافة المجاعة القاتلة.

والخشية أن هذه اللحظة الفارقة ما بين الأمل وفقدانه تدفع إلى نشر الفوضى والعنف الجماعي والتطرف، بل قل الانهيار الشامل للمجتمع. وهو اليوم الذي كنت قد حذّرت من قدومه وبصوت عال قبل أكثر من عام من هذا التاريخ.

التضخم هو واحدة من أخطر العلل الاقتصادية التي تصيب الأوطان، وأشدها فتكا وضررا. وتحدد السرعة والحدة اللتان يتحرك بهما التضخم في قنوات التداول مصيرها. وتذكرنا روايات درامية من التاريخ بما فعله التضخم الجامح في تلك الأوطان: (ألمانيا عام 1921 والمجر عام 1945 وتشيلي بينوشيه عام 1973 والأرجنتين عام 1989 ونيكارغو 1990 وزيمبابوي عام 2000 واليونان عام 2010 وآخرها اليوم فنزويلا الغنية بالنفط التي دفع التضخم الجامح فيها الملايين من مواطنيها للهجرة إلى الدولة المجاورة، وهو الأمر الذي دفع بخمس دول من دول أمريكا اللاتينية للمطالبة بإحالة حكومة فنزويلا للمساءلة.

قال الاقتصادي البريطاني الشهير جون مينارد كينز «ليس ثمة وسيلة أكثر خبثا وضمانا لقلب الأسس القائمة لوجود المجتمع من تدهور العملة»، كما قال جون هتري «التضخم آفة مميتة، ما إن تمسك بخناق النظام الاقتصادي-الاجتماعي حتى تسممه برمته».

مصادر التضخم
يعد الإفراط في خلق الأرصدة النقدية واحدا من أبرز مصادر التضخم وأسبابه المتعددة. ويطلق عليه بالتضخم النقودي بحيث تغدو هناك كمية هائلة من الأوراق النقدية تطارد سلعا قليلة وهو الحالة السائدة اليوم في الاقتصاد اليمني.

رغم أن الأشكال الأخرى من التضخم كالتضخم المدفوع بالعجز والتضخم المدفوع بالطلب، والتضخم المدفوع بالتكاليف والتضخم الائتماني قد تبقى سائدة وبدرجات متفاوتة وتسهم في زيادة سعر التضخم، غير أن الدور الرئيسي الآن يظل حكرا على التضخم النقودي.

لكن ما ينبغي قوله هنا إن التضخم الجامح الذي ينتشر كالسرطان اليوم في جسد الاقتصاد اليمني والمصحوب بانهيار سريع للعملة الوطنية الريال، هو اليوم أكبر من مجرد ظاهرة اقتصادية. إذ أن الحرب الدائرة وغياب الأمن في اليمن والنزعات الإقليمية الساعية إلى تمزيق اليمن والتشرذم السياسي للأحزاب السياسية والنخب الاجتماعية والقبلية ومساعيها ضيقة الأفق لتحقيق مكاسب آنية على حساب مستقبل اليمن هي المحرك الأول لماكينة التضخم الجامح.

وبالتالي فإن أي وصفات لعلاج التضخم ووقفه بأدوات اقتصادية بحتة ليست أكثر من مجرد أمنيات ومصيرها الفشل. تلك الوصفات الارتجالية التي يتم الإعلان عنها بين الفينة والأخرى لن تحل المعضلة بل تطلق عفاريت التضخم المكبوت من قماقمها لتجهز على من تبقّى من آمال في القيادة والسيطرة.

إن مظاهر التضخم وديناميتها وخصائصها تتباين أوقات الحرب عنها في أوقات السلم. فتمويل الإنفاق الحربي، وبروز الفصائل والجماعات المسلحة المتربّحة من الحرب ونمطها الاستهلاكي الشره يجعل من تسارع معدلات التضخم أشبه بسرعة فيضان جارف انهارت أمامه كل الحواجز. كما أن انهيار المؤسسات الاقتصادية والإنتاجية بفعل وقائع الحرب يدفع السلطات في ظل الحرب للّجوء إلى طباعة النقود من دون غطاء لتمويل احتياجاتها العسكرية والمدنية.

مما يزيد الطين بلة هو تنافس القوى المتحاربة على طباعة النقود الورقية كل في حدود ونطاق قدرته في فعل ذلك. وحتى الربع الثالث من عام 2018 ومنذ بداية الحرب المشؤومة، استقبلت قنوات التداول النقدي ما يزيد عن 3.5 تريليون ريال يمني من دون غطاء لتغطية نفقات الأجور والمرتبات ونفقات الحرب بشكل رئيسي. ومما يفاقم من تعاظم المشكلة هو تزايد سرعات النقود بفعل المخاوف من تآكل قيمتها لتعتلي ظاهرة “النقود الساخنة” و»الدولرة» مسرح الأزمة الراهنة.

تعقيدات الأزمة
ما يعقّد المشكلة اليمنية هو توقف المعاملات الاقتصادية مع العالم الخارجي بشكل شبه كلي مما قاد إلى نضوب العملة الصعبة في البنك المركزي وبقية البنوك التجارية في بلد الصراع. وبفعل انعدام أدوات التقييم والرقابة والسيطرة على السياسية النقدية التي من شأنها أن تضبط حجم الكتلة النقدية وترشّد السلوك الاستهلاكي في المجتمع ينشأ ما أطلق عليه “الوهم النقدي”.

تعتقد السلطات النقدية، ومن دون حجج قوية، ويشاركها في ذلك طيف واسع من الفئات الاجتماعية بإمكانية السيطرة على تدهور قيمة العملة في الظروف السائدة بمجرد الحصول على مبالغ محدودة من العملة الأجنبية كما هو حال الوديعة المقدمة من المملكة العربية السعودية.

يميز علماء الاقتصاد بين مرحلتين من التضخم، الأولى يطلق عليها التضخم التدريجي والثانية التضخم الجامح. في المرحلة الأولى تكون العلاقة بين الكتلة النقدية والكتلة السلعية مقومة بالنقود في حالة من الاختلال المحدود. فمع زيادة الكتلة النقدية في قنوات التداول تنمو تبعا لهذا الشكل من تضخم الأسعار بمعدلات أقل من زيادة الكتلة النقدية.

وعلى العكس ففي ظروف التضخم الجامح ترتفع الأسعار بمعدلات أسرع وأكبر من ارتفاع الكتلة النقدية. وتكون سرعة دوران النقود أسرع بمرات من سرعة الزيادة في الكتلة النقدية ويظهر بفعلها ما نطلق عليه بالنقود الساخنة.

في هذه المرحلة، تتنافس كافة الفئات الاجتماعية للتخلص من النقود المحلية بسبب فقدانها المتواصل لقيمتها المقومة بالعملات الأخرى وذلك في سبيل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من ثرواتها وأصولها المادية. ولذلك يمكن الافتراض بأن الكتلة النقدية اليوم في اليمن مضروبة في سرعة دورانها والذي نقدره بـ(5-3 دورات) تبلغ ثلاثة أضعاف تقريبا حجمها الفعلي في قنوات التداول.

عند هذه المرحلة يطرأ على العملة من عجز كبير في القيام بوظائفها الرئيسية الأربع (وظيفتها كمقياس للقيمة، ووظيفة وسيط لتبادل السلع والخدمات، ووظيفة الاكتناز، ووظيفة المدفوعات الدولية) حتى تتوقف تماما عند النقطة الحرجة للتضخم التي تصبح فيه ليست أكثر من مجرد ورقة لا قيمة لها. وانهيار المارك الألماني في الفترة من سنة 1921 إلى 1923 يعتبر مثالا كلاسيكيا لانهيار العملة في ظل الحرب وما بعدها.

عند بلوغ هذه النقطة تنهار ثقة المتعاملين تماما في العملة المحلية إلى درجة يندفعون معها وبهوس شديد للتخلص منها عبر شراء العملات الأخرى ليظهر ما يطلق عليه ظاهرة «الدولرة».

ثورة جياع
وعلى وقع هذا التضخم أطلق مواطنون وناشطون يمنيون حملة إلكترونية واسعة النطاق على مواقع التواصل الاجتماعي، تطالب بـ «تنفيذ ثورة شعبية ضد الجميع»، في إشارة إلى الأطراف السياسية المتصارعة في اليمن. ونقلت لوكالة الأنباء الألمانية (د.ب.أ) عن عدد من اليمنيين أن “هذه الحملة نفذت جراء استمرار انهيار العملة المحلية أمام العملات الأجنبية بشكل غير مسبوق، وارتفاع الأسعار بشكل جنوني، مع استمرار أزمة المشتقات النفطية وغاز الطبخ”.

وأضاف المصدر “يعيش اليمنيون اليوم أسوأ مراحل حياتهم منذ بدء الحرب في البلاد، فلا مرتبات ولا مصدر دخل ثابت يساعدهم في الحصول على مستلزمات الحياة الأساسية وسط غلاء المعيشة”. ويعاني نحو 18 مليون شخص، من بينهم نسبة عالية من الأطفال، من انعدام الأمن الغذائي، في حين لا يعرف 8 ملايين يمني كيف سيحصلون على وجبتهم المقبلة.

ووصل سعر صرف الدولار مقابل الريال اليمني إلى 750 ريالا، في حين وصل سعر صرف الريال السعودي إلى 203 ريالات يمنية، أي ازداد سعر الصرف أكثر من ثلاثة أضعاف على ما كان عليه قبل اندلاع الحرب. ويشهد اليمن حربا عنيفة منذ نحو أربعة أعوام بين قوات الجيش الحكومي من جهة، ومسلحي الحوثيين المتهمين بتلقي الدعم من إيران من جهة ثانية، خلفت نحو 6 آلاف و660 قتيلا من المدنيين وإصابة عشرة آلاف و563 آخرين. وأشار المتحدثون إلى أن “اليمنيين لم يعد باستطاعتهم تحمل المزيد من المعاناة وسط غياب أفق السلام”.

وتضمنّت الحملة التي انتشرت بشكل واسع على مواقع التواصل الاجتماعي، تويتر وفيسبوك، مطالب بخروج اليمنيين بثورة ضد الجميع، أطلقوا عليها ثورة الجياع، منتقدين فيها سياسة الحكومة الشرعية ومسلحي الحوثيين على حد السواء. واتهم المواطنون والناشطون تلك الأطراف بالتسبب في تدهور الوضع المعيشي في البلاد التي تعد اليوم من أفقر دول العالم. وكان وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية حذر الأسبوع الماضي، من مخاطر حدوث مجاعة وشيكة في اليمن “تسفر عن خسارة هائلة في الأرواح”.

يوم القيامة
للحرب الأهلية الدائرة في اليمن اليوم الإسهام الأكبر في الإعداد النهائي لـ”يوم القيامة” الذي بحلوله لن يكون هناك مجتمع نتعامل معه كما عهدناه من قبل. سيلعب التضخم الجامح الذي ينطلق اليوم بلا كوابح في الإجهاز على ما تبقى من بنية المجتمع المؤسسية والمادية منها والأخلاقية والقيمية الرادعة.

ما إن طلت الحرب الأهلية الأخيرة بقرونها الشيطانية في الربع الأخير من عام 2014 حتى بدأ الاقتصاد اليمني الضعيف والمنهك من الأصل بالترنح والانكماش. فانكمش الناتج المحلي الإجمالي بنهاية عام 2015 بمقدار الثلث، وخسر أكثر من نصف قوة العمل اليمنية وظائفهم، وأغلق أكثر من نصف المنشآت الصناعية والزراعية والخدمية المدرة للدخل والعمل وانزلق الملايين من اليمنيين إلى خنادق الفقر، بحيث غدا ثلثي سكان اليمن غير مؤمنين غذائيا.

زاد من هول الكارثة الحصار الاقتصادي والمالي الذي فرضه المجتمع الدولي والإقليمي على اليمن. فقد غادرت مطلع عام 2015 كل السفارات الأجنبية والمؤسسات التنموية والإنسانية العاملة في اليمن إلا في ما ندر. وأوقفت جميع المشاريع والبرامج والمساعدات والقروض التنموية التي كانت تقدمها تلك الدول والمؤسسات لليمن.

وأصبح صوت المدافع والصواريخ وجنازير الدبابات وعربات الموت وأزيز الطائرات هو الصوت الوحيد الذي يدوي في سماء اليمن وأرضها بدلا عن أصوات آلات المصانع وآلات الحراثة والحصاد وعربات نقل السلع والمنتجات الزراعية من ساحات الإنتاج إلى أسواق المستهلكين.

وإذا كانت أدوات الحرب الدائرة تقتل المئات من البشر، فإن انهيار الريال المصحوب بالتضخم الجامح يقود إلى موت مئات الآلاف بل ربما الملايين من اليمنيين. كما أن التضخم الجامح - بحق ودون مبالغة - هو أمضى أسلحة الدمار الشامل الذي يتعرض له المجتمع اليمني اليوم. وتحذير المبعوث الدولي إلى اليمن مارتن جريفيثس منذ يومين في هذا الخصوص له منطقه المبرر.

إن تآكل القيمة المحلية هي محصلة مشاكل هيكلية في الاقتصاد اليمني ونتيجة مباشرة للحرب وغياب الأمن والاستقرار والتدخلات الإقليمية الساعية على الإجهاز التام على هذا البلد العريق وشعبه، ولن تحل هذه المشكلة المركبة ويعالج داءها العضال بالسياسات النقدية للبنك المركزي التي برهنت بما يكفي أنها ليست على دراية كافية بحجم وفداحة المشكلة وجوهرها.

وللتخفيف من قوة آثار هذه الكارثة، فإن الأمر يقتضي أن تقوم دول التحالف العربي بضخ من (5-10) مليار دولار إلى البنك المركزي اليمني مع تسهيل عمليات تحويلات المغتربين في دول الخليج. وأن تعمل الحكومة اليمنية على إدارة هذا المبلغ بالشراكة مع دول التحالف بنهج جديد أساسه المهنية والشفافية والكفاءة الاقتصادية والإدارية. غير أن إيقاف الحرب والتوصل إلى سلام متين وعادل ودائم وبأقصى سرعة هما المخرج الوحيد والأسمى لتجنب حلول «يوم قيامة» في اليمن.
* أستاذ الاقتصاد بجامعة صنعاء (العرب اللندنية)

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى