إلى ميريللا

> أسماء الآغا

>
في محنة الحياة بين الآمال والرحيل، حديث واحد يعيده الماضي وتكرره الأيام، حين كنت يا ميريللا تتحدثين عن (حنا) الذي قتل في تعز برصاص قناصة، وأُخبرنا أنكم اضطررتم إلى إغلاق مكتبكم في تعز بسبب اغتياله والدموع تملأ عيناك، كنت أحدث حينها نفسي وفي داخلي عتب على كل القسوة التي منينا بها طيلة السنوات الماضية والتي جعلتنا ننسى طعم الدموع ونسينا البكاء حتى الإنسان في داخلنا، استمر هذا الشعور يراودني وانا احاول الهرب منه وادّعي القوة، بينما يطاردني شبح لإنسان كان موجودا في داخلنا والذي شيعنا جنازته في الاشهر الاولى من بداية الكارثة التي جرفت كل السلام الذي كنا نتدثر به، وبينما كان يعرض الفيلم الخاص بالشهيد «حسين» الذي قتل في أبين متشظيا بين لؤم الغادرين، كانت دموعك تذرف بقوة طوال الوقت بينما أغلبنا كان يعلم بأنه بين حياة حسين وموته، كنا نشيع شريطا لفيلم سابق شيعنا فيه جنائز أهلنا وأطفالنا وأصدقائنا، جيراننا، أشخاص سمعنا عنهم وبعضهم لم نعرفهم، كنا نشيعهم ونشيع معهم جثة إنسانيتنا بروحها وابتسامتها وأملها إلى مثواها الأخير في غصص خناقة نعلم معها اننا ان ابتسمنا يوما فلن تكون ابتسامة كسابق عهدها، وان قهقهنا بالضحك فعهده يوما فهي حشرجات لبكاء قادم، وإن بكينا نعلم أنها لن تغسل العلق الذي علق في قلوبنا.

أشياء كثيرة عشناها بمرارة في تجارب الحرب القاسية والتي لم تنته، كان اهم ما سلبته منا هي الرحمة. الدموع والخوف على ارواحنا بعد ان كلت قلوبنا المرجفة من طقطقات قلوبنا المهرولة لحظة مرور صاروخ او كاتوشيا من امام الشباك والذي يفصلنا عنها بضع سنتيمترات كنا حينها نبقى مستلقين مستسلمين للموت المنتظر، والذي أعترف أن تلك اللحظات التي لم أنسها عملت على تجميد الدم في عروقي، كنت أسمع هذه العبارة وأقرأها في كتب وروايات عن اشخاص عاشوا الحروب في لبنان وفلسطين ومصر، ولكني اعترف اني عشت معنى ان يتجمد الدم في العروق وان تتلو الشهادتين قبل ان تنام خشية الا تستيقظ ابدا وان ننتظر دورنا في جنائز الموتى، حتى غادرت «الحالمة» وودعت معها أمنيات الطفولة وخرجت منها وأنا أستنشق ذرات ترابها الذي كان يلتصق بنا من نافذة شباك الباص الذي أقلنا والذي سار بنا عشر ساعات في رحلة شاقة طفنا فيها ريف تعز لنصل إلى المدينة التي تخيلنا أنها تتمرغ بالسلام.

خلال هذه السنوات أصبحنا أقوى.. أقسى.. أخشن.. أقل حلماً.. وأقل ابتسامة.. وأقل تأثرا.. وأقل شكوى.. وأقل تذمرا.. وأكثر مطالبة بإنقاذ الإنسان المتبقي فينا، إن كان هناك أي أمل لإعادة ولادته في داخلنا، وإن لم نتمكن فيكفي أن يعيش في أحشاء أطفالنا الذي لم يمارسوا بعد دور الحياة، فكيف كنا أو صرنا سنبقى نبحث عن هذا الذي كان منا واندثر تحت ركام المنازل وأتربة المقابر وأزيز الرصاص وخشونة الحياة في بلدان الحروب اليمن كانت أو أي ما يحمل في أي بلدة رمق للحياة أقل حقوقه أن يشعر بأنه الإنسان!!

كان يجب على هذه الحروب أن تجعلنا أرق وألين قلوبا.. لكن الحروب لا تمنح الحب ولا توزع العطور إلا بنكهة البارود والدم.. حينما كنا نذرف الدموع لم نكن نذرفها على من ماتوا ولكن ذرفناها افتقادا للدموع ولزمن البكاء والحزن الجميل وملوحتها لحظة تدحرجها التي كانت تخبرنا بدفء إحساسها إننا مازلنا أحياء.. فهل حقا نحن مازلنا أحياء؟!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى