محطات وذكريات جميلة مع المناضل والفنان الكبير محمد مرشد ناجي

> الفنان أنور مبارك

>
تعودت في مثل هذا اليوم 6 نوفمبر من كل عام، الاتصال بواسطة الهاتف الأرضي، برائد نضالنا، الفنان الكبير الراحل محمد مرشد ناجي، مهنئاً إياه بعيد ميلاده، وكان يستقبل مكالمتي بترحاب غير عادي، وأسمعه يقول لأولاده ومن حواليه: (مش قلت لكم بأنه بايتصل) فهو يعنينا بحرصي الشديد بتهنئته في كل عام.

لم تكن علاقتي بفناننا العملاق علاقة تلميذ بأستاذه، ولكنها كانت علاقة أبوية حميمية، امتدت منذ ولوجي في المجال الفني في نهاية الستينيات، وحتى رحيله عنا إلى جوار ربه في 7 فبراير 2013م، وكان رحيله المفاجئ ولحظات وداعه قد ملأت كل العيون بالدموع، والقلوب بالحزن العميق، وليلتها لم أنم، وبدأ شريط الذكريات يعيد ملامح الصور المحفورة في ذاكرتي، ولازالت راسخة في أعماقي، منذ دخولي مجال الفن، وأنا في سن الطفولة.

كانت الساحة الفنية في فترة الخمسينات والستينات زاخرة بالعطاء الإبداعي المتميز، ولعبت إذاعة عدن الرائدة، الدور البارز في نشر إبداعات مشاهير الغناء اليمني، في عدن، وكنا نملك في منزلنا مثل معظم الأسر العدنية، جهاز راديو تفتحه والدتي، رحمة الله عليها، منذ بدء البث في السادسة صباحا بالقرآن الكريم، مرورا بمختلف البرامج حتى نهايته، ورغم صغر سني الذي لم يكن يتعدى العاشرة، تلقفت أذناي اغاني فرسان الاغنية العدنية، وعلى رأسهم الراحل العظيم ابونا محمد مرشد ناجي، الذي يحلو لي ان اصفه بذلك، والتي شكلت وعيي الفني وعززت ميولي للموسيقى والغناء.

في تلك الفترة مطلع الستينات ساعدتني الظروف بان اسمعه واشاهده عن قرب، حيث كانت تربطه صداقة حميمية مع الشخصية الوطنية والاجتماعية رئيس نادي الجزيرة الرياضي سابقاً بالمعلا الوالد الفاضل احمد يوسف النهاري، اطال الله في عمره، الذي كان يسكن بجوار منزل عمي في شارع البحتري بالمعلا، وكان عزيزنا الراحل يتردد لزيارته بين فترة واخرى، ويجتمعون في منزله مع اقرب اصدقائهم، في جلسة قات يتخللها الغناء والطرب، وعندما كنت اعلم بقدومه اسارع وآخذ مكاني خلسة في السلم المؤدي إلى الباب الداخلي للمنزل، واستمع بلهفة ونشوة وانبهار لصوته الرخيم وعزفه المتفنن والانيق على آلة العود.

تعرفت مبكرا على الاغاني (وقفة.. وظبي من شمسان.. وشبابك ندى ريان.. وخلاني وراح وصلاه)، وغيرها من الاغاني التي كان يؤديها من الوان الغناء اليمني والعربي، والتي ساعدتني في هذه المرحلة المبكرة من عمري، من الاقتراب من عالم الموسيقى والغناء الذي اعشقه منذ طفولتي.

مرت سنين قليلة وساعدتني الظروف لممارسة هوايتي المفضلة للموسيقى والغناء بداية مع (فرقة البراعم المدرسية) بقيادة الموسيقاء يحيى مكي، رحمة الله عليه، ثم وفقتنا الصدف مع عازف الكمان المشهور علي فيروز، رحمة الله عليه، الذي تربطه علاقة متينة وراسخة مع الراحل الغالي المرشدي، والذي الحقنا بالفرقة الحديثة عام 1969م بقيادة المايسترو نديم عوض، اطال الله في عمره، والتي كانت تقوم بتنفيذ اعمال مختلف الفنانين في تسجيلاتهم الاذاعية والتلفزيونية، وفي احدى التسجيلات كان لي الشرف بلقاء فقيدنا الراحل والتعرف عليه شخصيا، وعن قرب بواسطة علي فيروز الذي قدمنا له بصفتي من الاصوات الناشئة، وكان لقاء لا ينسى، حيث وجدت نفسي امام قامة وهامة شديدة التواضع، وفوجئت عندما اثنى عليّ وانه قد وصله صوتي من اول تسجيلاتي في اذاعة عدن في تلك الفترة من مطلع السبعينات واشاد بصوتي وادائي، وحثنا على الاستمرار، وكانت اشادته وشهادته بمثابة الدعم والتشجيع للمزيد من العطاء، وكلل كل ذلك بعد فترة وجيزة بإهدائي عودا ثمينا، ظللت احتفظ به لفترة طويلة.


جمعتني بالراحل الغالي محمد مرشد ناجي، هذا العملاق، محطات كثيرة وذكريات عميقة ومشاركات داخلية وخارجية، منها برعايته واهتمامه، واستعرض هنا ابرز هذه المحطات، في العام 1984م جرت مسابقة لاحسن اغنية في ذروة فعاليات المشروع الوطني لمحو الامية وتعليم الكبار بإشراف اللجنة العليا للحملة الوطنية الشاملة لمحو الامية، وكان يرأسها حينها الرئيس خالد الذكر على ناصر محمد، اطال الله في عمره، ارسل لي فناننا العزيز الراحل محمد مرشد ناجي لزيارته في منزله، وسلمني قصيدة غنائية تتعلق بالمناسبة مطلعها (ابني يطالبنا) من كلمات الشاعر والتربوي القدير عبده علي البعيصي، ورسا علي الاختيار لأدائها، وسجلت الاغنية للاذاعة والتلفزيون، بعد ان نالت المركز الاول كاحسن عمل غنائي، ونال كل منا الثلاثة ميدالية ذهبية، وتقدير الدولة.

وفي العام 1998م وجه معهد العالم العربي بباريس الدعوة لفنان الشعب الكبير محمد مرشد ناجي، ولرائد الاغنية العدنية خليل محمد خليل، رحمة الله عليهما، لاحياء الفعالية الخاصة باللون العدني على خشبة مسرح المركز بالعاصمة باريس، ورشحنا الراحل العزيز للسفر معهم والمشاركة بأغنياتي الخاصة، واحيينا الثلاثة ليلتين رائعتين، قدمنا فيهما اعمالا غنائية من اللون العدني الشائع والحديث، وكانت مشاركتنا كاختتام لتظاهرة فنية اقامها المعهد خاصة بألوان الغناء اليمني، واستضاف على مدى عدة اشهر فنانين من مختلف المحافظات اليمنية في فترات زمنية متفرقة، الذكريات كثيرة مع هذا العملاق الفنان الوطني العظيم، الذي عاش شامخا ومات شامخا وهذا غيض من فيض.

وكنت قد ترددت بالكتابة عن ابينا المرشدي، رحمة الله عليه، فهو اكبر من ان اتحدث عنه، لانه صاحب كل الانغام الحلوة التي نرددها ونتغنى بها، هو الذي اضاء لها بفكره واحساسه الموسيقي الموهوب، الذي اشار إلى اهمية اللحن الجديد والاداء الجديد من اول  الحانه، وهو اغنية (وقفة) وغيرها من الاغاني، التي حملت ارقى المعاني الجمالية والانسانية، وابدع الراحل في كل ما قدمه من اعماله الفنية، وكل ما قدمه من جديد، الذي نسمعه في موسسيقانا اليوم، وقد نتجت عن المدرسة التي أنشأها مدارس جديدة تأثرت به وتأثر بها، وتطورت به وتطور بها.

ونعتبره مدرسة لنا جميعا، والاب الروحي لنا وللموسيقى اليمنية بكل اركانها والوانها، تعلمنا منه ومن حياته المفعمة بالعطاء وبالنضال والابداع والمعاناة، ومن اعماله الغنائية العاطفية والوطنية التي ارّخت في سجل تاريخه الواسع لمراحل ومنعطفات سياسية واجتماعية واقتصادية شهدتها عدن ومناطق اليمن الاخرى.
تعلمنا منه اشياء كثيرة، حيث قدم راحلنا الغالي اغاني التراث بقالب تجديدي وقدمها بصوته الرخيم، وهذبها بعبقريته بحيث تتناسب مع ايقاعات العصر، و معنا جيلا بعد جيل.

وكان اقدر الجميع على وضع اللحن المناسب للصوت المناسب، وبفضل قدرته هذه، لمعت اسماء مطربين كثيرين تعهدهم زمناً حتى وقفوا على ارجلهم، ثم تركهم لمواهبهم وقدراتهم. ولم يتراجع يوماً امام من يلجأ اليه، ممن شقوا طريقهم من الفنانين في الساحة الفنية، او من المواهب الذين هم في بداية الطريق، عن تقديم النصيحة والمساعدة وتذليل اي مصاعب تواجههم، بكل ما يملك من قوة ومقدرة.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى