حرفة الأدب

> د. عبد القدوس أبو صالح

> دفعني إلى الحديث عن حِرْفة الأدب ـ بكسر الحاء أو ضمهاـ أني رأيت بعض المتأدبين يخطئ في فهم هذا التعبير، ويظن أن المراد به هو مهنة الأدب، أي أن يعيش الأديب من كدّ قلمه، دون أن تكون له مهنة يتكسب بها، أو وظيفة تدر عليه مرتبها.
وإنمـا اشتُقَّت «حرفة الأدب» من الحُرْف: وهو الاسم من قولك رجل محارَف، أي: منقوص الحظ، لا ينمو له مال. وتدور معاني الحرف والمحارفة في معاجم اللغة حول معاني الحرمان وقلة الرزق، وتتعداها أحياناً إلى قلة الحظ في كل ما يتوجه إليه الإنسان.

ففي الصحاح: «رجل محارَف ـ بفتح الراء ـ أي محدود ومحروم، وهو خلاف قولك: مبارك، قال الراجز:
مُحارَفٌ بالشاء والأباعرِ
 مُبَارَكٌ بالقَلَعيّ الباترِ(1)
وفي اللسان: «المُحارَف: هو الذي إذا طلب فلا يرزق. وقد حورف كسب فلان، إذا شدد عليه في معاملته، وضُيِّق في معاشه، كأنه ميل برزقه عنه، من الانحراف عن الشيء، وهو الميل عنه».

وفـي تــاج العــروس: «المُحارَف: هـو الذي لا يصيب خيراً من وجه توجه له».
ولعل المعجم الوحيد الذي ذكر حرفة الأدب هو أساس البلاغة للزمخشري، حيث نجد فيه قوله: «وحورف فلان، وأدركته حرفة الأدب. وتقول: ما من حَرْف إلا وهو مقرون بحُرف. قال:
ما ازددت من أدبي حَرْفاً أُسَرّ به
 إلا تزيّدت حُرفاً تحته شُومُ(2)
على أن الثعالبيَّ في يتيمة الدهر سبق الزمخشري إلى إضافة الحرفة إلى الأدب، وإن كان استعمـــاله لهــذا التعبير يبدو مقصوراً على قلة الحظ فيما يتوجه إليه الإنسان، وعلى استهداف الدهر له بالخطوب. ولنسمع إلى قوله في أبي فراس الحمداني: «لما أدركت أبا فراس حرفة الأدب، وأصابته عين الكمال، أسرته الروم في بعض وقائعها وهو جريح، وقد أصابه سهم بقي نصله في فخذه، وحُصِّل مثخناً بخرشنة، ثم بقسطنطينية، وتطاولت مدته بها لتعذر المفاداة، وقد قيل: على كل نُجْحٍ رقيبٌ من الآفات».

ولعل أكثر الأدباء ترديداً لألفاظ الحرفة والمحارفة هو: أبو حيان التوحيدي، الذي كانت حياته مثلاً لا نظير له على من أدركته حرفة الأدب، حتى انتهى به الأمر إلى أن يحرق كتبه بيديه. ولنستمع إليه متحدثاً عن نفسه:
«ولقد استولى عليّ الحُرف، وتمكن مني نكد الزمان إلى الحد الذي لا أسترزق مع صحة نقلي، وتقييد خطي، وتزويق نسخي، وسلامته من التصحيف والتحريف بمثل ما يسترزق البليد الذي ينسخ النسخ، ويمسخ الأصل والفرع».

ويقول في مكان آخر:
«فأجبته أنا وعيناي بالدموع تترقرق، لما بان لي من حرفتي، ونبوّ الدهر بي، وضيــاع سعيي، وخيبة أملي في كل من أرتجيه لملم أو مهم أو حادثة أو نائبة».

وفي هذا الأديب الذي أدركته حرفة الأدب يقول ياقوت(3):
«وهو مع ذلك فرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاء وفطنة، وفصاحة ومكنة، كثير التحصيل للعلوم في كل فن حفظه، واسع الدراية والرواية. وكان مع ذلك محدوداً مُحارَفاً، يتشكى حُرْفَ زمانه، ويبكي في تصانيفه على حرمانه».
------------------------------
(1)   القلَعي: السيف القاطع.
 (2)   الشّوم: الشّؤم.
 (3)   معجم الأدباء 15/6.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى