في الذكرى الـ (43) لرحيل سيدة الغناء العربي أم كلثوم.. الميلاد التاريخي لأم كلثوم

> مختار مقطري

> يوم الأحد القادم، الثالث من فبراير 2019م، يصادف الذكرى الـ 43 لرحيل سيدة الغناء العربي أم كلثوم، بعد نحو 60 عاما من الغناء الراقي والمواقف الوطنية العظيمة.
ولقد اتفق على أن العام 1898م، هو العام الذي ولدت فيه أم كلثوم، بقريتها طماي الزوهايرة، مركز السنبلاوين، بمحافظة المنصورة، وهو اتفاق غير موثق، وأراها قد ولدت قبل هذا العام بعامين أو ثلاثة، وليس هذا هو الموضوع، لأن الأهم هنا أنها وصلت لتغني في القاهرة، وهي شابة صغيرة، وليست طفلة، آن لها أن تكون لها أحلامها وآمالها، والأهم من ذلك، أن يكون لها حق اختيار اغنياتها، وهذا مالم يتسن لها، بسبب الرقابة اللصيقة لها من قبل والدها الشيخ إبراهيم البلتاجي وأخيها الشيخ خالد، وخيرا فعلا، والجو المحافظ الذي أحيطت به، منذ طفولتها، للتقاليد الاجتماعية، والقيم والمفاهيم الإسلامية التي تربت عليها، منذ بداية نشأتها في القرية، فأبوها هو مؤذن القرية، ومن حفاظ القرآن فيها، لكنه وافق أن تغني ابنته وهي طفلة في المراكز والقرى والنجوع، لا أظن أن المسألة حاجته للمال، إنها رؤية استشرافية للمستقبل، ثم حين صارت شابة، ولم يرغمها على الزواج من ابن عمها، واكتفى أن يلبسها البالطو والعقال، وكان يستقبل ضيوفها من الشعراء والملحنين، كل ذلك وهو مدفوع دفعا، أما أمها فقد أصرت على تذهب ابنتها للكتاب لتحفظ ما تيسر لها من القرآن الكريم، ولم تكن هذه عادة مألوفة في الأرياف.

كل ذلك كان ترتيبا تاريخيا لظهور المطربة العظيمة، وبسبب قراءتها للقرآن وحفظها شيئا منه، فقد استقام لسانها واستبان نطقها، ولذلك كله، لم يجرفها التيار بمجرد وصولها للقاهرة، تيار الأغنية الغربية والتركية والأغنية الهابطة والخليعة.
هذا ما كان سائدا في القاهرة آنذاك، كانت المغنية ترقص وتغني كلمات تافهة، ولحنا يتمايل عليه جسدها، وكان الملحنون يقدمون للمغنيات هذه الألحان السقيمة، والشعراء يكتبون، والصحافة تطبل، والنخبة المثقفة بعيدة عن النقد. إذن.. كان على أم كلثوم أن تولد عام 1898، وأن تصل للقاهرة مع بداية الحرب العالمية الأولى، وذلك الفساد قد سيطر على الساحة الفنية، وكان عليها أن تتعب، وأن تبدأ من الصفر بتربية جمهور جديد يبحث في الأغنية عن المعنى الجميل والنغمة الحلوة المبتكرة، والغناء البعيد عن الإسفاف والحسية والمعاني المبتذلة، بالإضافة إلى الابتعاد عن سلوكيات المطربة المبتذلة التي اشتهرت بها المطربة آنذاك والمواصفات التي ارتبطت بلقب (المعلمة، سلطانة الطرب) وهو ما عدنا إليه منذ انتشار الفضائيات، وكان معظم جمهور الغناء، الشعب المصري الفقير، لا يجد الأغنية المصرية الأصيلة التي تترجم أحاسيسه وهمومه وطموحاته، لذلك كان وصول أم كلثوم للقاهرة لتواجه امتحانا عسيرا، فالواقع الفني فيها، فيه إغراءات كثيرة، وأم كلثوم لم تكن ملاكا، فهي إنسانة لها رغبات وطموحات، وكفنانة كانت دون شك، تتوق للشهرة، خصوصا لمغنية، لكن حماها من السقوط في الوحل، التمسك بالقيم والأخلاق الحميدة، ومراعاة القيم والمفاهيم الاجتماعية والدينية،

والأهم من ذلك الرقابة اللصيقة لها من قبل أبيها وأخيها، ذلك كله كان ترتيبا تاريخيا، لمغنية ولدت عام 1898م لتصل إلى القاهرة وهي شابة صغيرة، لتواجه امتحانا صعبا، إما السقوط والاستسلام للإغراءات، وأهمها إغراء الشهرة السريعة، وإما التمسك بما ألفته وتدربت عليه منذ صغرها. ولذلك، فإن ميلاد أم كلثوم عام 1898م، كان ميلادا تاريخيا، فقد ساعدها عدم سقوطها أخلاقيا ونشأتها نشأة محافظة، على أن تكون مقنعة، وهي تشدو بأغانيها الوطنية والدينية، تمدح النبي، صلى الله عليه وسلم، وتناجي الله، سبحانه وتعالى، وتتغنى بفضائل الإسلام، ولولا سلوكها المحافظ، حتى بعد أن صارت مطربة مشهورة، وحرصها الشديد على أن تكون محافظة في السلوك وفي الشكل وفي المعاني العاطفية التي تغنيها، لما صدقها الناس، ولما شغف جمهورها بمعلقات أحمد شوقي التي حولتها لمعلقات كلثومية، وهي تغني له مثلا:

صلاحُ امركَ للأخلاقِ مرجعهُ
فقوّمِ النفسَ بالأخلاقِ تستقمِ
والنفسُ من خيرها في خيرِ عافيةٍ
والنفسُ من شرها في مرتعٍ وخمِ
وفي الجانب الوطني، شدت أم كلثوم بعشرات الأغاني الوطنية، عن مصر وعن حب مصر، وعن كل الأحداث التي شهدتها مصر والأمة العربية، بإحساس صادق، لأن وطنيتها كانت صادقة، وقدمت على ذلك براهين عملية، حتى أصبحت زعيمة وطنية وشعبية.
ويوجد سبب آخر يجعله ميلادا تاريخيا، فقد شهدت أم كلثوم، لأنها من مواليد العام 1898 أحداثا عالمية وعربية ووطنية عظيمة، غيرت مجرى تاريخ الأمة العربية ومصر تحديدا، وصنعت شخصيتها كإنسانة وفنانة عظيمة، وجعلت منها مطربة وطنية عظيمة، وزعيمة وطنية شعبية، أسهمت في صناعة الأحداث السياسية الوطنية، وغيرت مجرى تاريخ الموسيقى والغناء العربي، ومن هذه الأحداث الحربان العالميتان الأولى والثانية، ثورة 1919، حرب فلسطين 1948، ثورة يوليو 1952، العدوان الثلاثي على مصر 1956، هزيمة يونيو 1967، حرب أكتوبر 1973 المعروفة بمعركة العبور، ومع كل حدث من هذه الأحداث، كان وعيها الوطني والفني التنويري يتنامى، فوقفت مع الشعب المصري والعربي، في كل هذه الأحداث، بصوتها العظيم وبأجمل وأعذب الأغاني الدينية والوطنية، مهنئة وموقظة للحس الوطني، ومؤازرة في الشدائد ومستنهضة للهمم، وداعية للثبات والعمل والمزيد من الإصرار، وكانت ثورة 1919 قد أيقظت فيها المشاعر الوطنية، فأدركت أن الفن رسالة تنويرية، ولذلك تعد أم كلثوم أحد رواد حركة التنوير بمصر، الذين أنجبتهم ثورة 1919، ثم تنامى وعيها بأهمية الشعور الديني والقيم والمفاهيم الإسلامية في استنهاض الأمة العربية والأمم الإسلامية عموما، خلال الحرب العالمية الثانية، التي شارك فيها العرب والمسلمون، على أمل الفوز بالحرية والاستقلال، بحسب وعود الدول الغربية، التي تنكرت لهم بعد الحرب. وحينها بدأت أم كلثوم بتنفيذ مشروعها الفني الوطني الديني، في أعقاب الحرب الأولى، بقصيدة (سلوا قلبي) لأحمد شوقي.

وفيها تغنت بهذه الأبيات الوطنية الخالدة:
وما نيل المطالب بالتمني
ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
وما استعصى على قومٍ منالٌ
اذا الإقدامُ كان لهم ركابا
وهكذا نجحت أم كلثوم بتقديم مشروعها الوطني الديني، من خلال قصائد شوقي وغيره، وهو مشروع يقوم على أن حب الوطن من الإيمان، وأن الدفاع عن الوطن واجب ديني، وأن تحقيق الآمال الوطنية يحتاج للتمسك بثوابت الدين، إلى جانب حب الوطن والعمل والكفاح، ولذلك كان لابد أن تواجه العرب بسلبياتهم وإخفاقاتهم وتمزقهم، وقد فعلت ذلك في قصيدة (عرفات) بهذه الأبيات، وهي لشوقي:
ولا حملت نفسٌ هوىً لبلاذها
كنفسي في فعلي وفي نفثاتي
اذا زرت بعد البيت قبر محمدٍ
وقبلت مثوى الاعظم العطراتِ
فقل لرسول الله يا خير مرسلٍ
ابثك ما تدري من الحسراتِ
شعوبك في شرق البلاد وغربها
كأصحاب كهفٍ في عميق سباتِ
بأيمانهم نوران ذكرٌ وسنةٌ
فما بالهم في حالك الظلماتِ​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى