خطاب الموت في الشعر الجاهلي

> أحمد الحسين

>
​أرق الموت بال الإنسان، وشغل تفكيره المصير المحتوم الذي أثار في أعماق نفسه المضطربة تساؤلات حائرة عن جدلية الموت والحياة. وسر الفناء، وغاية الزوال. وقد عبرت ثقافات الشعوب، وفلسفاتها، وأساطيرها عن قضية الموت بمستويات مخلفة ونقلت كثيرا من التصورات عن طبيعة العدم والبقاء. وكان الشعر من بين الفنون الإبداعية قد حل خطرات فكرية، وتأملات ذهنية أطلقها الشعراء تعبيرا عن حقائق الوجود وبانوراما الحياة والفناء.

والشاعر الجاهلي عني بأمر الموت كسائر الناس، ومضى به تأمله الفكري إلى أدران حقيقة الحياة. في قصرها ومحدودية أيامها، فهي كالكنز تنقص، ولا تزيد كما يقول طرفة بن العبد:
أرى العيش كنزا ناقصا كل ليلة
وما تنقص الأيام والدهر ينفد
وبدت له الحياة كثوب معار في إشارة إلى عدم امتلاكها، ومن طبيعة الأشياء المقارة أنها لا تدوم ولا بد ان يستردها من أودعها. وعندئذ فإن مصير الإنسان إلى زوال، وإن قدره أن يسلك درب المنية، ويلحق بالذين سبقوه كما تخبر بذلك سعدى بنت الشمردل إذ تقول:
ولقد علمت بأن كل مؤخر
يوما سيبل الأولين سيتبع
ولقد علمت لو أن علما نافع
أن كل حي ذاهب فمودع
والانشغال بالموت أوقد في نفس الشاعر جذوة قلق لا يسكن، أفسد عليه متعة الحياة، وكدر صفوها. إذ صار الشاعر يخشى أن يصرعه الموت في أية لحظة وأن يباغته الردى في غفلة، ما دامت سهامه مشرعة لا تخطر، من تصيب، وإدراك الموت بحد ذاته يتجل في التفكير بالمال الذي يصير إليه الشاعر حيث سيصبح منزله العامر حفرة موحشة، لا مؤنس فيها ولا أنيس. حفرة تسفي عليها الرياح يهجع فيها جثة هامدة، لا تسمع، ولا تجيب، إنه الشعور بالعدم المطلق كما عبر عنه المثقب العبدي إذ قال:
ولقد علمت بأن قصري حفرة
غبراء يحملني إليها شرجعُ
فبكى بناتي شجرهن وزوجتي
والأقربون إلي ثم تصدعوا
وتركت في غبراء يكره وردها.
تسفي علي الريح حين أودعُ
حتى إذا وافى الحمام لوقته
ولكل جنب لا محالة مصرعُ
نبذوا إليه بالسلام فلم يجب
أحدا، وصم عن الدعاء الأسمعُ

حتمية الموت
ولعل الفكرة التي تشير إليها الأبيات السابقة تؤكد مفهوم الحتمية، فالموت حقيقة ثابتة، وقضاء مقدر، لا مهرب منه، ولا منجاة.
والشاعر الجاهلي كان مدركا هذه الحقيقة، وكان على يقين واسخ بأن الموت منهل يرده الجميع، ولا يمكن للمرء أن ينجو من سهامه، أو يظفر بالخلود لمال أو جاه أو سلطان:
إني وجدك ما تخلدني
مائة يطير عفاؤها أدم
 ولئن بنيت لي المشقرفي
هضب تقصر دونه العصم
لتنقبت عني المنية إن
الله ليس لحكمه حكم
وقد تحدث عن هذه الحقيقة أكثر من شاعر، فهذا طرفة يجد الإنسان مقيدا بحبال المنية، ولا خلاص له منها، ولا فكاك:
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى
                 لكالطول المرخى وثنياه باليد
وذاك أبو أؤيب الهذلي يتأمل الحياة من حوله، وكيف تفك المنية بالناس ولا تجد بينهم من يقوى على رد غائلة الموت، فلا التمائم تنفع، ولا التعاويذ تجدي أنها قوة الحتمية المعلقة إذ يقول في صيغة من الواقعية، والاستسلام العاجز:
وإذا المنية أنشبت أظفارها
                             ألفيت كل تميمة لا تنفع
وبلغ الاستسلام إلى هذه الحتمية درجة من الاعتقاد بأن الموت سيطال الإنسان، ولو صعد في السماء أو احتمى في القلاع والحصون، فلابد أن تناله أسباب المنايا كما يرى زهير بن أبي سلمى إذ يقول:
ومن هاب أسباب المنيّة يلقها
وإن رام أسباب السماء بسلم
ومناقشة كرة الحتمية من جانب آخر قد تمنح الإنسان حرية في الاختيار فمادام الموت قدرا مضروبا، ومحددا فإن خشية أسبابه لا تهب المرء خلودا، فلماذا لا يفشى الإنسان ساحات الوغى، ولماذا لا يرحل في الأرض، ويطوف بين الأصقاع؟ بل لماذا يستكين مستسلما والموت حين يأتي لا علاقة له بهذا أو ذاك من الأسباب:
ألم تعلمي ألا يراخي منيتي
قعودي، ولا يدني الوفاة وحيلي؟
مع القدر الموقوف حتى يصيبني
حامي لو أن النفس غير عجولِ

شمولية الموت
ويتفرع من الحتمية معنى الشمولية. فالموت يساوي بين الناس كافة، وبذلك تبرز عدالته التي لا تؤثر في نفاذ أحكامها مكانة المرء أو منزلته بين القوم. فالموت لا يترك أحدا كما يخبرنا طرفة:
أرى الموت لا يرعي على ذي قرابة
وان كان في الدنيا عزيزا بمقعد
وفي شمولية الموت يتحقق نوع من العزاء بالمساواة، حيث تزول الفوارق، وتلفى الامتيازات وهذا ما يخفف من أثر وقع الموت على النفوس، ويبدو تقبل هذه النتيجة مرضيا بعض الشيء. فالإنسان الحي حين يتأمل قبور الموتى يجدها واحدة في مظهرها، فأنت لا تميز بين قبر شجاع، أو قبر جبان، ولا بين قبر بخيل أو قبر كريم لأنك كما يقول طرفة:
ترى جثوتين من تراب عليهما
صفائح صم من صفيح منضد
وفي إطار فكرة الحتمية وما ينقب عنها من شمولية أصبح التفكير بالخلود ضربا من المستحيل الذي لا طاقة للإنسان به، ولا معلمه، وأصبحت نظرة الإنسان إلى الموت تتسم بالواقعية وذك من خلال تأمله في. مصير الأولين، الذي كون في وجدانه قناعات راسخة عبر عنها بصيغة التساؤل أو الاستفهام إذ قال:
فكيف يرجي المرء دهرا مخلدا
وأعماله عما قليل تحاسبه
ألم ترَ لقمان بن عاد تتابعت
عليه النسور ثم غابت كواكبه

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى