الذكرى الثالثة لرحيل فقيد الغناء اليمني محمد علي ميسري

> عصام خليدي

>
​يتساقط المبدعون تباعاً كأوراق الخريف بعد رحلة معاناة موجعة مع المعاناة والمناشدات والاستغاثات والوعود الرسمية العرقوبية؟! تتعاقب حكومات التحاصص والقسمة بين فرقاء الأحزاب السياسية المتناحرة المتقاتلة التي تضع (العلماء والفنانين والمبدعين والمفكرين) في آخر أجنداتهم في إدارة شؤون البلد المطحون المكلوم المثقل بمآسيه ونيران ولهيب أوجاعه وجراحاته يخسر الوطن في كل لحظة واحداً من ضحايا الكلمة الشريفة والنغمة الصافية العذبة التي أضاءت حياتنا وأسعدت صباحاتنا وأمسياتنا بفيض من الفكر والعلم والثقافة والغناء الرصين الراقي..

فجـــعت الأوساط الفنية والثقــافـــية في صـبـــاح الــثلاثاء الـــموافق 2 فبراير 2016م بخبر وفاة ورحيل الفنان الشامل والأديب والتربوي المناضل محمد علي ميسري أثناء تلقيه جرعات علاج الغسيل الكلوي في محافظة عدن بمستشفى الجمهورية التعليمي..
بعد رحلة شاقــة مضنية مع المرض والمعاناة النفسية والعضوية والتغييب والتهميش والجحود والنكــران..

محطات هامة في مسار تجربته الإبداعية الفنية
عشقناه وألـفـناه صوتاً عذباً شجياً صافياً متدفقاً كنهر جار قوي ومؤثر ينـفـذُ بسلاسة وعفوية إلى الروح والقلب يتوغل بتلـقائية وعمق بين حنايا وثـنايا الأفـئـدة والمشاعر والأحاسيس، يلامس بفنه الراقي ويحتضن عقولنا ووجداننا وعواطفنا، بل ونستطيع القول إنه “حالة فنية شديدة الفرادة والخصوصية”، اجتمعت في دواخله قدرات ومزايا وملكات ربانية مدعمة بموهبة فـذة لتشكل وحـدة ونسيج وتناغم إنساني ورومانسي تبلور بوضوح جلي وحنكة واقتدار في تجربته الإبداعية في مسارات وسياقات نغمية مقامية وإيقاعية فقدم للجماهير في الداخل والخارج خلاصته وخلطته الإبداعية السحرية بمزيج من التلاقـح والتداخل والانصهار بين الغناء البدوي والفلكلور والتراث بمختلف أنماطه وأشكاله وتلويناته وإيقاعاته والعبور به بمعرفة وثقافة ودراية إلى مدارات سفر الغناء الحديث والمعاصر ليصبح (الفنان الميسري) وبما قدمه من غناء متألق (رقماً بارزاً) صعباً ومهماً في سجلات وصفحات تاريخنا الغنائي الحديث اخـترقـت تجربته الفنية جميع الفواصل والحواجز والأزمنة والأماكن، وتميزت مدرسته الغنائية الموسيقية المتكئة على عنصرين ومحورين هامين:

المحور الأول
التعامل والتعاطي مع الأصالة والتراث والفلكلور الشعبي والإيقاعات المتداولة المختلفة في المحافظات التالية: أبين/ لحج/ حضرموت/ ومدينة عدن.. وإعادة تقديمها بمحاولة محاكاة ذلك الإرث الفني والإنساني بمعالجة إبداعية تحمل رؤى وأبعاداً جمالية إضافية جديدة تجاوزت النطاق المحدود والدوائر البيئية المحلية الضيقة إلى آفاق غنائية موسيقية رحبة.

المحور الثاني
يستند إلى عنصر الابتكار والخلق والحداثة والتجديد في أساليب وطرائق الغناء اليمني المعاصر.
تـفردت غنائياته في بناءاتها المعمارية الهندسية الشاهقة الباسقة وبالتمرد والخروج من دوائر الرتابة والسكون إلى فضاءات وأمـداء الحركة والتحليق وخلق جمل وقوالب موسيقية (تطـريـبية تعـبـيريـة) مليئة مفعمة بالحيوية والرشاقة والنشاط والحوارات النغمية (الديالكتيكية والديناميكية الفنية المدعمة لحنياً ومقامياً وإيقاعياً) المستندة على إبراز وإظهار (كوامن ومطارح وانـبعـاثـات البهجة والفرحة والتفاؤل والجمال).

نجح الفنان المتألق الميسري مطرباً وملحناً وشاعراً بوضع بصمة غير مسبوقة في ألحانه وأغـانيه الخالـدة التي نتـذكر منها على سبيل المثال: يا فـلاحـة/ الزعل دا على أيش/ كيفكم يا حبايب/ شـي معـك لي أخـبار/ سلم.. سلم يا محبوب/ كـتبت اسـمك/ شـوف بعـينك شـوف/ ليـلة/ عيدو.. يا عيدو (كل سنه وأنتم طيبين)/ وأغنيته الشهيرة غني يا عدن الثورة/ بالإضافة لتعاونه مع شاعر مودية الكبير (علي رامي) في أغنية أنا هاجسي في رأس عبدالله حسن الضابط السياسي الإيراني (عبدالله حسن جعفـر المبعوث من عدن إلى مودية) إبـان فترة حكم الاستعمار البريطاني/ وأغنية يا عم منصور.. وغيرها من الأغـنيات العذاب الحاليات الخالدات التي وشمت في ذاكرة وذائقة المستمعين في داخل الوطن وخارجه.

ابـتـدأ فقيد الغناء وفناننا المبدع حياته الفنية رسمياً في (تسجيلات إذاعة عدن عام 1966م)، واستطاع أن يحتل مكانة فنية متميزة مرموقة، ويـعـدُ الفنان الميسري من أبناء مدينة (مودية) الباسلة الأبية الثائرة المشهودة والمعروفة بتاريخها الوطني المشرف في الملاحم النضالية البطولية.
عرفته فناناً متواضعاً مـثـقـفاً مثابراً معتزاً بنفسه وبما قدمه من عطاء فني إبداعي نوعي متفرد جعله من الفنانين المتصدرين للمشهد الغنائي في اليمن والجزيرة العربية والخليج العربي بجدارة واستحقاق بل وأعتلى وتبـوأ مواطن النجاح والتفوق في قلوبنا وضمائرنا أنه واحـد من الفنانين الكبار والقلائل المنشغلين المشتغلين في هاجس البحث والتعب المضني للوصول إلى منابر وغايات التجديد والمغايرة في أسلوب ونمط وشكل الغناء اليمني الحديث والمعاصر مع الاحتفاظ بالهوية والمذاق والنكهة العريقة والأصيلة.

ولا يسعني في نهاية هذا المطاف الإبداعي والتناولة الفنية عن فقيد الغناء الفنان والتربوي الكبير  والمناضل/ محمد على الميسري (أبا منير وعلي) إلا التذكير بمناقبه المتعددة والإشادة والتقدير بدوره الإبداعي المتميز الفاعل في رفد وإثراء المكتبة الفنية الغنائية الموسيقية على امتداد ساحات وفضاءات الوطن وفي الجزيرة العربية والخليج العربي..
تغمده الله بواسع رحمته ورضوانه وألهم أهله وذويه ومحبيه في الداخل والخارج الصبر والسلوان.. إنا لله وإنا إليه راجعون.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى