> كتب/ عبدالقادر باراس

كثيرة هي المواضيع التي أُثيرت بخصوص مهنة الطب وتدنيها في بلادنا، ولأنها مهنة إنسانية فإن واقعنا يشهد أن بعض الأطباء قد فقدوا أخلاقيات مهنتهم جرياً وراء المادة ورغبة في الحصول على الشهادات، ووضع ألقاب مهنتهم قبل أسمائهم دون أي تجسيد لمعاني قداسة المهنة وخدمة مرضاهم بأمانة وإخلاص، حتى إن البعض منهم يستقبل أعداداً كبيرة من المرضى يومياً، بل باتت غرفة الكشف نفسها تزدحم بأكثر من حالة مرضية، الأمر الذي يؤثر على التركيز في معاينة المريض.

إن تدهور الطب في بلادنا لا يعود لأسباب تقنية كنقص الكادر ونقص الأجهزة والمستلزمات الطبية، بل إن المسألة أعمق من ذلك بكثير، وأساسها يعود إلى انهيار منظومة الصحة بكاملها، بسبب غياب الدولة والتدهور الحاصل في التعليم، ناهيك عن محسوبية الفساد في كشوفات القبول والنجاح في كلية الطب وضعف جودة مدخلاتها وشبه انعدام لأي حصيلة تطبيقية تطوّر من نوعية مخرجاتها.

وإزاء ذلك، علينا أن نقوم بتشخيص المشكلة بدقة، فقطاع الصحة هو واحد من القطاعات الحيوية المهمة في البلاد التي نخر فيها الفساد، وليس بخافٍ على أحد حال المستشفيات الحكومية في بلادنا وما وصلت إليه من انحدار مريع، سواءً في سوء الخدمة والإهمال أو عدم توفر المستلزمات الطبية الكافية، بالإضافة إلى ارتكاب الأخطاء الجسيمة التي تؤدي في الغالب بأرواح الأبرياء في ظل غياب شبه كامل لأي دور للجهات الرقابية المتمثلة في إدارة الرقابة والتفتيش بوزارة الصحة، أو بالأحرى تعطيل متعمد لدورها، خاصة في وجود مسؤولين ينهبون المساعدات المقدمة للبلاد بسرقة الأموال والمعدات المقدمة أو إخفائها دون استخدامها ليقوموا ببيعها في السوق السوداء، والأمر ينطبق كذلك على الأدوية، ويتم منح تراخيص لمستوصفات لا تنطبق عليها تسمية منشأة صحية، واستيراد محاليل مختبرية رديئة لا تعطي نتائج تشخيصية صحيحة، وكذا الحال بالنسبة للصيدليات، دون أن يتم اتخاذ كافة الإجراءات الإدارية والقانونية للتأكد من مدى التزامها بالشروط والمعايير الصحية، ناهيك عن عدم اتخاذ أي إجراءات عقابية بخصوص المنشآت الصحية المخالفة لضوابط الأمان والسلامة الصحية.

بدء التدهور
وعند العودة إلى الوراء نجد أن المستشفيات الحكومية في عدن والمحافظات الجنوبية كانت تهتم بصحة المواطن، إلى أن تراجعت الكثير من الخدمات الصحية خلال الثلاثة العقود الماضية، وبالمقابل تم إفساح المجال للمستشفيات الخاصة دون رقابة، فازدادت السرقات في الأدوية والمستلزمات الطبية الأخرى ونهب الميزانيات التشغيلية في المستشفيات والمرافق الصحية الحكومية وفرضت الرسوم التي لا تستند إلى أي قوانين في المستشفيات والمجمعات الصحية.

أما الأطباء فيمكث بعضهم في عياداته الخارجية الخاصة به، حتى في أوقات العمل الرسمي، فضلاً عن عدم وجودهم ببعض النوبات، مما يضطر المرضى للجوء إلى عياداتهم الخاصة.
ما يحدث الآن في المستشفيات الحكومية وهمٌ كبير يسمى كذباً بالعلاج المجاني، حيث يبدأ من الإهمال وينتهي عند اختفاء العلاج، امتد بعده إلى عدم وجود الطبيب المختص ونقص الإمكانيات والأخطاء الطبية.

وقد تعمدت الحكومات السابقة على مدار الثلاثة العقود الماضية إلى إهمال المستشفيات الحكومية ليتم حرمان المواطن من أبسط حقوقه في الحصول على الرعاية الصحية والعلاج المجاني وتركه فريسة للأمراض.

تشخيص خاطئ
رصدنا قصصا لمرضى ليسوا سوى نموذج بسيط لمئات من الحالات المشابهة التي تراكمت بفعل الأخطاء في التشخيص الطبي ومنها:

- شخص خضعت والدته لعلاج انسداد القنوات الدمعية بالأردن من خلال إجرائها عملية جراحية في شق القناة الدمعية من قبل اثنين من الجراحين أحدهما للعين والآخر للأنف والأذن والحنجرة، وعند إنهاء عمليتهما بنجاح أخبروه على إزالة العقدة من جهتي العين والأنف بعد مدة العملية بشهر في عدن، وبعد مضي المدة تم إزالة إحداهما في عدن من جهة العين من قبل دكتورة العيون، لكن من اتجاه الأنف لم يستطع أكثر من طبيب إزالة العقدة المتبقية، وكان عليه أن يعود بوالدته مضطراً من جديد إلى الأردن لإزالة العقدة وهي عبارة عن سلك وتر صغير، وعاد إلى الجراح الأردني الذي أجرى العملية لوالدته، فسأله الدكتور مندهشاً (ما بها أمك)، رد عليه، أطباؤنا لم يستطيعوا إزالة العقدة المتبقية من اتجاه الأنف.. فضحك ثم أخرج العقدة بسهولة، حتى أن والدته لم تصدق (ففهم من دبلوماسية ضحكة الدكتور الأردني بأنها رسالة موجهة لأطباء بلده في اليمن).. معلقا ولدها "بأنه لشيء مؤلم أن أخسر آلاف الدولارات للعودة إلى الأردن من أجل شيء بسيط جداً لم يستغرق دقائق أو ثواني معدودة، والأشد إيلاماً هو رداءة واقعنا من انحطاط التعليم وانحدار الطب".

- فيما روى أحد أبناء عدن قصته مع أمه ومعاناتها، حيث دخلت والدته لإجراء عملية للمياه البيضاء في أحد المستشفيات الخاصة بعدن وبعد خروجها من العملية حدث لها نزيف في العين والاتهام ضاع ما بين الطبيبة المعالجة والطاقم الطبي، وبالتالي اضطر ولدها لأن يسافر بها إلى الأردن.
- كما يوضح أحد المرضى بأن حالته شُخصت من قبل طبيب المناظير وأبلغه بنتائج الفحص بأن جدار معدته مخدش وارتجاع بالمري ويكاد مصاب بالاثني عشرية، فسارع للسفر إلى الأردن وعند معاينته في أحد مشافي عّمان أخبروه الأطباء بأن الفحوص سليمة ولا يعاني من معدته شيء، فقط تم إجراء له استئصال المرارة بعملية جراحية لأنها هي التي كانت تؤلمه.

- وهناك أيضاً امرأة أجرِي لها فحص، فأخبروها بأن فيها ورم، وذهبت للخارج، وتبين تشخيصها خاطئ، مجرد تعرضها لصدمة وانتفاخ مائي، وبشريط فيه عشر حبات تعافت مباشرة.

إن هذا الأمر صار سائداً وبصورة طبيعية تعلو مؤشراتها في مستشفياتنا في ظل إصرار الجهات المسؤولة على التقليل من حجم المشكلة، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بخطورة حياتهم كون معظمهم صار يحمل صورة سلبية نتيجة وقوع المرضى لأخطاء في التشخيص، إضافة إلى أن هناك أخطاء طبية تحدث وكذلك النقص في الدواء والغش مما يرغم المرضى إلى السفر للخارج طلباً للعلاج، ودائماً ما يبحث عن الطبيب المتمكن، بسبب الوضع المتدني لقطاع الصحة في البلاد، كل هذا أدى إلى تنامي ظاهرة العلاج في الخارج خاصة إلى الأردن ومصر والهند، الأمر الذي أدى إلى أزمة ثقة بين المواطن والعلاج بالداخل.

معاناة المرضى في الخارج
مشاكل المرضى اليمنيين في الخارج فهم كغيرهم من العرب والاجانب، يعانون من ارتفاع تكاليف علاجهم، فالعلاج بالخارج يرهقهم ويستنزف مواردهم، حيث يضطر بعض المرضى من الاستدانة أو بيع ممتلكاته من أجل توفير ثمن علاجه في الخارج.
وما سمعناه من حكايات ولامسناه حقيقة عن التكاليف الباهظة للعلاج، على سبيل المثال في المستشفيات الأردنية للمرضى اليمنيين تسبب بردة فعل غير مريحة للمرضى الذين يعتزمون العلاج في الأردن، وبالتالي ربما يغيروا من وجهة الكثير منهم للعلاج في دول أخرى.

وفي هذا السياق نفتح تساؤلات عن الاستغلال الذي يتعرض المرضى اليمنيين في خارج أرضه ليتلقى العلاج بواسطة مكاتب سماسرة وأصحاب النقل- التاكسي، كما أن هناك مستشفيات تتلاعب بتكلفة علاجهم، حيث يؤكد الكثير من المرضى بأن هناك مبالغة في تسعيرة العلاج، وأن ما يتم تقديمه من خدمات طبية لا يتناسب مع ما يتم دفعه مقابلها، بسبب غياب في بعض البلدان من لائحة الأسعار المعتمدة من وزارة الصحة على جدران المستشفيات الخاصة، بحيث يتمكن المرضى من الاطلاع عليها والتقيد بها، وإن كانت بعض المستشفيات تبرز هذه اللوائح في حال علمها بنزول مفتشي ومراقبي الوزارة إليها، كما أن قيمة فواتير العلاج النهائية المطلوبة للسداد لا تشتمل بعض منها على أي تفاصيل كاملة.

ويشكو العديد من المرضى اليمنيين الذين يتعالجون في الخارج من سفارات بلادهم عن تعرضهم لاستغلال المستشفيات لهم بتكبدهم مبالغ كبيرة في تكاليف علاجهم، ويأتي تبرير السفارات اليمنية بأنهم لم يلجؤوا إليها من البداية لإرشادهم إلى المستشفيات والمراكز الطبية المناسبة، إلا أن بعض العاملين في السفارات اليمنية يمارسون أعلى درجات الاحترافية في السمسرة لإرشاد وتوجيه المرضى إلى مستشفيات يستلمون من خلالها عمولات ولا يختلفون إطلاقاً عن سماسرة المكاتب وسائقي التاكسي في تلك البلدان التي يتعالج فيها المرضى اليمنيون الذين ينطبق عليهم المثل القائل (كالمستجير من الرمضاء بالنار).

ولعل اتفاقيات المعالجة الطبية التي ترددها الحكومة مع البلدان التي يتوافد إليها المرضى اليمنيين والتي عليها أن تقوم بتحديد الإجراءات التنظيمية والإجرائية للراغبين في العلاج في المستشفيات والمراكز الصحية لضمان حصولهم على خدمات طبية متميزة يعتبر للأسف الشديد واحداً من أهم مداخل السمسرة التي يستغلها بعض العاملين في سفاراتنا لاستلام عمولات من المستشفيات التي يتلقى المرضى اليمنيون العلاج فيها.