في الحديدة.. الحياة مستمرة رغم الحرب

> تقرير/ خاص:

> مواطنون: الحرب أفقدتنا وظائفنا وأعمالنا فأوجدنا البديل
"حوت.. حوت.." بلهجته التهامية بدأ بائع السمك عبدالله صباحة، منادياً زبائنه في الأحياء الشعبية وسط المدينة بمحافظة الحديدة.
يتجول عبدالله بعربيته الممتلئة بأسماك "الباغة الصغيرة"، النوع الوحيد الذي يقدر على شرائه سكان تلك الأحياء، والذي لا يزيد قيمة الواحد منه عن ثلاثين ريالاً.

كلمة (حوت.. حوت) التي يردها هذا التهامي، تشعر المرء بأن الحياة ما تزال تدب في هذه المدينة الغارقة في الحرب منذ سنوات.
وعلى الرغم ممّا أحدثته الحرب من تغيرات في ملامح هذه المحافظة، إلا أن أبناءها يحاولون جاهدين أن يتأقلموا مع واقعهم الجديد والمر، حتى وإن كلفهم ذلك الكثير.

لجأ الكثير منهم إلى الانخراط في أشغال وأعمال أخرى بعد أن أفقدتهم الحرب مصادر دخلهم، أو حرمتهم منها، فيما واصل البعض مهنته حتى وإن كانت لا تدرّ عليه بما يكفي لمقاومة احتياجات الحياة وظروفها القاسية.
 
شيء خير من لا شيء
"الفل" كان واحداً من ما يُميز تهامة عن غيرها، غير أنه اليوم بات وجوده شحيحاً في الأسواق لأكثر من سبب، وهي إحدى المهن التي ما يزال يمارسها بعض المواطنين، لاسيما السكان الأصليين من أبناء المدينة، ممن اضطروا إلى العودة من نزوحهم بعد أن وجدوا العيش صعباً ومكلفاً خارج منطقتهم.
أبكر (22 عاماً) أحد مزارعي الفل، أجبر على ترك دراسته بعد أن توفي والده، وحالياً يحرص وشقيقاته على قطف زهرات الفل في الصباح الباكر من منطقة المغراس، وسرعان ما يحمل ما جناه إلى السوق لبيعه على زبائنه.

يقول أبكر، في حديثه لـ "الأيام": "رغم أن الفائدة قليلة ولا تساوي شيئاً مقابل ما نبذله من جهد وتعب طوال سنة، لكننا مستمرون وقد اعتدنا على بيع الفل والاعتناء به منذ زمن، كما إن العمل في بيعه ممتع حتى وإن كان متعباً، خصوصاً بعد أن طالت الطريق إلى المدينة نتيجة إغلاق مدخل المدينة (كيلو 16)".
ويضيف أبكر: "إن الكثير من المزارعين يضطرون لجلب الفل من مناطق بعيدة من المحافظة حملاً على الأكتاف، بعد وضعه بأقمشة مع الاستمرار في بلّه بالماء طوال الطريق للحفاظ عليه من الذبول بسبب حرارة الشمس".

عودة الحياة
فيما تقول سامية، وهي عشرينية العمر: "إن الحرب في الحديدة خلقت حياة أخرى، سار على نهجها المواطنون متجاوزين في ذلك الخوف والهلع واليأس الذي أُصيبوا به في منذ بداية المعركة التي حلّت بالمدينة".
وتضيف لـ "الأيام": "كان الجميع يظن أن الحرب لن تستمر طويلاً، فهناك من أجّل زفافه بعد حجزه لقاعة العرس، ومنهم من أخّر بعض أعماله التي قد بدأ بتنفيذها، ولكن بعد تأكدهم من أن المعارك ستطول استأنفوا أشغالهم، فلجأ العازمون على إقامة الأعراس، بعد أن أُغلقت صالات الأعراس ومحالات الزينة ومغادرة الفرق الفنية، إلى اتخاذ طرق أخرى ليحققوا أحلامهم وأهدافهم، حيث بدأت أصوات الزغاريد والزفة تترد من المنازل، كما فُرشت الأحواش في الأحياء وارتصت لمبات الزينة على جدران المنازل، وعادت محلات الزينة تفتح أبوابها من جديد، وترددت أصوات المفرقعات والألعاب النارية، وبات، في الوقت الحالي، لا تمر ليلة من ليالي الحديدة إلا وتسمع أصوات الفنانين والفرق الفنية تعلو الحارات والأحياء الشعبية، فيما أصبحت المولدات الصغيرة هي الوسيلة الوحيدة لإنارة أحياء المدينة بعد انقطاع التيار الكهربائي عنها بسبب الحرب".

وتضيف سامية، في حديثها لـ "الأيام": "إن أصوات المغنيات الشعبيات تتداخل مع بعضها البعض في السهرات الليلية، والتي تأتي في مقدمة أغنياتهن الأغنية الشهيرة (الباب جنب الباب ونحن جوارو)، فيما ترافق أصوات الطبول في الظهيرة أغنية (واعلم حنّا واعالم حنّا)، خلالها تتسلل النساء من الأزقة إلى منزل العروس المغطى بالأخضر، ويحوم الرجال حول العريس بالحناء المعجون ويطلونه به، في مشهد يؤكد بأن الحديدة مازالت مدينة السلام وتعشق الحياة رغم ما حل بها من لظى الحرب".

فرص عمل بديلة
وعلى الرغم من التداعيات الكبيرة التي خلفتها الحرب على المرافق الحكومية والمصانع والمحال التجارية من دمار، وتعطيل الحركة وحرمان الموظفين والعمال من أعمالهم ومصادر دخلهم المعيشي، لم يستسلم أي منهم، فلجأ كل واحد منهم للبحث عن عمل بديل كمصدر رزق لهم ولأسرهم.
سامي المقطري، واحد ممن نالهم نصيب وافر من تداعيات الحرب، بعد أن تعرض مصنع الألبان "يماني"، وكان سامي موظفاً فيه، للتدمير.

ظل المقطري لفترة يبحث عن عمل كغيره من الموظفين حتى أرشده صديق له من مديرية زبيد بالعمل في بيع الهند (الذرة الشامية) في حارته، ووجد إقبالاً كبيراً من قبل المواطنين، وتحسنت حالته المعيشية، بعد أن تجرع أطفاله وأسرته مرارة الجوع، حسب قوله.
شادي سيف، هو الآخر اضطر، بعد أن أُغلق المطعم الذي كان يعمل فيه، لبيع "الفشار" على زبائنه في متنزه الشعب.

كما لجأت إحدى ممرضات مستشفى 22 مايو بعد تعرضه للدمار، لإنشاء غرفة صغيرة في بيتها كعيادة لمعالجة المرضى في حارتها.
وتضيف لـ "الأيام": "حاربتنا الحرب فحاربناها، وكل شخص خسر عمله بحث عن فرصة عمل بديلة.. لا بد للحياة أن تستمر".

أبو سوسن، لم يكن أحسن حالاً من غيره، إذ خسر بسبب الحرب الدائرة في المحافظة ورشته لوقوعها في خط النار، تدهور على إثر ذلك وضعه المادي في البدء، لكنه سرعان ما أعاد افتتاحها أمام منزله وبدأ بالتواصل مع زبائنه فاستطاع بذلك تجاوز بعض الصعوبات المعيشية.
أما سوسن فحاولت أن تجد هي الأخرى فرصة للتغلب على ظروف الأسرة المادية والتمكن من مواصلة تعليمها الجامعي، من خلال إعطاء دروس خصوصية للأطفال.

تقول سوسن، في حديثها لـ "الأيام": "بمجرد أن أعلنت عن رغبتي بتدريس دروس خصوصية وجدت ترحيباً كبيراً من أولياء أمور الطلاب في الحارة، وحالياً أدرس 15 طالباً من مختلف المراحل"، ومن خلف هذه العملية التعليمية استطاعت الحصول على مبالغ مالية وتحفيزات مكنتها من الدراسة الجامعية.
تعمل سوسن جاهدة في إعطاء الدروس الخصوصية رغم انشغالها بدراستها، من أجل توفير قيمة الملازم والمصاريف الأخرى، وتقطع يومياً مسافات طويلة إلى الكلية مشياً على الأقدام وتحت حرارة الشمس لانعدام وسائل النقل، بسبب أزمة المشتقات النفطية.

مواصلة للتعليم
طلاب من محافظات أخرى، بدورهم عادوا للمدينة بعد فرارهم مع اشتداد المعركة، على الرغم من انقطاع الطرق ومغادرة أساتذة الجامعات وملاحقة بعضهم، لكنهم مصرون على إكمال ما بدأوا به، متحدين في ذلك كل العراقيل والصعاب.
التعليم في المرحلتين الأساسية والثانوية مستمر هو الآخر في ظل النقص والازدحام الكبير في صفوف الطلاب، بسبب تهدم المدارس ونقص المعلمين الحاد والذين نزح أغلبهم نتيجة الحرب وانقطاع مرتباتهم.

الجميع في محافظة الحديدة متمسك بالبقاء، وله أسلوبه وطريقته الخاصة لتحدي الأوضاع وتجاوزها، ومن كان نازحاً عاد للعيش في بيته مؤمناً بالقضاء والقدر.
تقول الحاجة عائشة: "نزحت في بداية الحرب، ولكن لما رأيت الحرب ستطول قررت العودة إلى منطقتي وواصلت بناء المنزل وما كتبه الله لنا لا مفر منه".

وتشهد المدينة نهضة عمرانية كبيرة رغم الارتفاع في أسعار مواد البناء.
يقول أحمد حكمي، وهو وكيل لمغترب من أقربائه: "حتى الذين غادروا الوطن ويعيشون في سلام مصرون على البناء في مناطقهم والمدن التي ينتمون إليها".

ويضيف، بينما يشير إلى عمارة بجواره: "وكلني مغترب من أقربائي ببناء هذه العمارة له، بل كل المغتربين من الحديدة يصرون على بناء عقارات لهم رغم الحرب التي تعيشها المدينة".​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى