«اتفاق الرياض».. خطوة أولى على طريق حل أزمات اليمن

> أحمد عليبة

> يطوي اتفاقُ الرياض المُوقّع بين الحكومة الشرعية والمجلس الانتقالي الجنوبي برعاية سعودية، فصلًا من فصول الصراع بينهما وصل إلى حد الصدام المسلح في أغسطس الماضي. وربما يرى فيها الطرف الجنوبي أنه يطوي صفحة أبعد من ذلك بكثير تعود إلى ما يقرب من ثلاثة عقود عندما بدأت دورة الصراع بين شمال اليمن وجنوبه في عقد التسعينيات من القرن الماضي. وقد أُنجز الاتفاق بعد مخاض عسير دام قرابة 9 أسابيع متصلة من الجولات والحوار والشد والجذب أفضت إلى وثيقة تُضيف إلى المرجعيات اليمنية مرجعية جديدة. واشتملت الوثيقة على ديباجة تضمنت قواعد وإجراءات حاكمة للعمل بين الطرفين تحت رعاية التحالف العربي، وثلاثة ملاحق: ملحق سياسي، عسكري ثم أمني، وملحق اقتصادي.

وبالنظر إلى ما تضمنته الديباجة الإطارية والملاحق الثلاثة من تفاصيل، هناك خمسة محاور إستراتيجية رابطة بينها يمكن التطرق إليها ابتداء، وهي:

1 - تضع وثيقة الرياض خريطة طريق مستقبلية واضحة الملامح تتضمن جدولًا زمنيًّا لخطة عمل سياسية وأمنية واقتصادية وعسكرية لإنهاء الصراع بين الحكومة الشرعية والجنوب. وفي واقع الأمر، تعيد هذه الخريطة هندسة الوضع الجنوبي ضمن الإطار العام للدولة استنادًا إلى المرجعيات الثلاث المعروفة لتسوية الأزمة اليمنية، وهي: المبادرة الخليجية، مخرجات الحوار الوطني، والقرار الأممي 2216. وبالتالي، فإنها لا تحسم الأزمة فقط بين الحكومة الشرعية والجنوب، أو بمعنى آخر "احتواء الأزمة"، وإنما تحسم "القضية الجنوبية" في إطار الأزمة اليمنية بشكل عام، لكن سيظل الحكم النهائي على هذا الاستنتاج رهن التجربة في المستقبل، ومدى القدرة على استقرار الاتفاق.

2 - ما يتعلق بالعلاقة بين الحكومة الشرعية والمجلس الانتقالي ورد في سياق عملية تقاسم سلطة وليس تقاسم نفوذ، حيث تحفظ للشرعية مركزية القرار وحق الإدارة، وهو ما يظهر من الخطوات التنفيذية الخاصة بالملحَقَيْن السياسي والعسكري، حيث سيتم تقاسم المواقع الحكومية (في إطار إعادة تشكيل حكومة من 24 وزيرًا) تتوزع بالمناصفة بين الشمال والجنوب، وهو ما ينطوي على صفقة للتسوية السياسية لكنها تظل تحتكم إلى الرئيس باعتباره رأس الهرم في السلطة، وما دونه يمكن التشاور بشأنه، مع الاحتفاظ له ضمنيًّا أيضًا باختيار رئيس الوزراء.

3 - من شأن الاتفاق قطع الطريق على مشاريع الانفصال أو استقلال الجنوب، وإنهاء مشروع الوحدة، وفقًا للدعوات التي تشكلت في إطار مسار الصراع السابق، بل إنها أيضًا استندت إلى قواعد مخرجات الحوار الوطني فيما يتعلق بترتيبات الحكم على النمط الفيدرالي الكلاسيكي، حيث الاتفاق على الأقاليم الستة، ومنها إقليم عدن الذي يشمل إلى جانب عدن أبين والضالع، وبالتالي يقوض التطلعات الخاصة بمشروع تمدد نفوذ القوى الجنوبية في باقي مناطق الجنوب. وبالتالي لدينا مؤشر على فكرة استقرار الاتفاق في المستقبل ولن يكون مجرد اتفاق مؤقت.

4 - هناك عملية إعادة انتشار شامل للقوات العسكرية وتوزيع القوات الأمنية، وهنا ملاحظتان أساسيتان، الأولى أنه لن يكون هناك عملية "إدماج" قوات وإنما عملية "ضم"؛ بحيث يتم توحيد قرار المؤسسة في يد سلطة واحدة، مع بعض الضمانات "الانتقالية" لنزع فتيل أي صدام محتمل بحيث يتم إخلاء عدن من مظاهر التسلح المتوسط والثقيل، ووضعه في معسكرات خارجها والتي سيبقى قرار تحركها مقيدًا بيد قيادة التحالف التي تمثلها السعودية. والثانية هي عملية الانتشار العسكري الخاصة بالتحالف والتي بموجبها سيصبح الثقل العسكري في الجنوب في يد المملكة العربية السعودية، وهو ما يعني تمدد الانتشار السعودي لتصبح القوة الأساسية في الجنوب ضمن عملية إعادة انتشار القوة الإماراتية المتبقية في ضوء خطة "إعادة الانتشار الإماراتي". وتشير الوثيقة في هذا الصدد إلى أن هذا سيحقق عملية السيطرة والمراقبة للسواحل البحرية الجنوبية اليمنية، وبالتالي يقوض انتهاكات إمداد السلاح لقوى التمرد الحوثي في الشمال، ويضبط إيقاع الحركة في بحر العرب وصولًا إلى باب المندب، وهو أمر سيحتاج من المملكة انتشارًا بحريًّا كثيفًا سيتطلب دعم قوى بحرية أخرى من التحالف في تلك المواقع.

5 - يعيد الاتفاق الاعتبار للمرجعيات السياسية الخاصة بالأزمة اليمنية، وانطلاقًا منها إعادة الاعتبار على التوالي للشرعية اليمنية وللمؤسسات اليمنية التي طغى عليها طابع الانقسام والصراع وغلبة المصالح والاعتبارات الحزبية والأيديولوجية والجهوية. لكن يظل أيضًا أن التطبيق هو الحاكم للمشهد، حيث إن هناك اعترافًا واضحًا بسلطة المجلس الانتقالي في كافة بنود الوثيقة، وبالتالي هناك مكون جنوبي له اعتبار سياسي كسلطة حكم ذاتي لديها صلاحيات تتوازى مع صلاحيات الحكومة المركزية، وهو أمر يحتاج إلى قدر من بناء الثقة، ولاسيما في المرحلة الأولى من الإجراءات التنفيذية، خاصة أن أول إجراء تنفيذي هو عودة رئيس الحكومة إلى العاصمة عدن وإدارة المؤسسات من هناك.

معضلة التعميم أو التكرار
وفقًا لما سبقت الإشارة إليه من محاور إستراتيجية تضمنتها "وثيقة الرياض"، هناك بعض التساؤلات التي تطرحها الوثيقة، ومنها على سبيل المثال: هل نموذج اتفاق الرياض قابل للتكرار أو التعميم مع باقي الأزمات المتعددة في اليمن، ولاسيما الأزمة الرئيسية في الشمال؟

هناك تصور بأن بناء سلام جزئي في بيئة متعددة الأزمات يمكن أن يكون نموذجًا قابلًا للتسويق وليس مدخلًا للتكتل لاستمرار التصعيد، وهو ما يظهر مما تضمنه الوثيقة بالإشارة إلى أن أحد الدوافع التي تتعلق بها هي عملية حماية اليمن وشعبه من استمرار عدوان الميليشيا الحوثية المدعومة من النظام الإيراني، والبناء على النجاحات السياسية والأمنية والإغاثية والتنموية التي تحققت وعلى رأسها استعادة السيطرة على معظم الأراضي اليمنية. ومن ثم، فإن تلك الجهود انصرفت إلى التكتل لمقاومة الانقلاب الحوثي. وفي البند الثامن من الإجراءات يشير الاتفاق إلى "مشاركة المجلس الانتقالي الجنوبي في وفد الحكومة الشرعية لمشاورات الحل السياسي لإنهاء انقلاب الميليشيا الحوثية الإرهابية المدعومة من النظام الإيراني".

لكن في المقابل، فإن الواقع والخبرة السياسية في معضلة الشمال، تشير إلى أن النموذج قد لا يكون قابلًا للتكرار في الحالة الحوثية، نظرًا لعدد من الاعتبارات، منها أن الاتفاق الذي جرى مع الجنوبيين كان يماثل اتفاقًا مشابهًا مع الميليشيا الحوثية وهو "اتفاق السلم والشراكة" قبيل انقلاب سبتمبر 2014 مباشرة. الأمر الآخر أن الميليشيا لا تقر المرجعيات، ومنها مرجعية الحوار الوطني التي التحقت بها في محطتها الأخيرة ووقعت عليها، وبالتالي فإن نموذج الأقاليم الستة لن يكون مناسبًا لها في إطار مشروعها السياسي، حيث ترغب في الخروج من معقلها الذي يقع ضمن إقليم "أزال" إلى الحديدة باعتبارها منفذًا لدويلة داخل الدولة اليمنية، فضلًا عن الإطار الأيديولوجي للمشروع الحوثي، حيث إن هناك سلطة دينية تقود مشروعًا سياسيًّا انطلاقًا من معقلها في صعدة، لكنها تريد أن تحكم به المجال العام ليس فقط كشريك في السلطة ولكن كسلطة موازية، وهو ما يعقد الحل الحوثي على الطريقة الجنوبية.

لكن من الناحية العملية، لا يزال رد الفعل الحوثي بعيدًا عن المضمون، حيث أظهر عدم اهتمام رسمي من جانب الحركة، مع اهتمام إعلامي محدود - حتى وقت كتابة هذا الموضوع - انصبّ على فكرة إعادة إحلال القوات السعودية محل القوات الإماراتية في البريقة، ومطار عدن، وقاعدة العند الجوية في لحج وميناء الزيت التابع لمصفاة عدن، ولكنّ هناك تحركًا آخر سيحكم أي تطور مستقبلي تجاه الخطوة الأخيرة، يتمثل في الزيارة التي قام بها وفد حوثي برئاسة "محمد عبدالسلام"، رئيس وفد الحركة في المفاوضات، إلى طهران في 26 أكتوبر الجاري، وهو لقاء يبدو من اللقطات التي عرضتها قناة المسيرة الحوثية أنه رُتِّب على عجل، لكن أهميته أنه جرى بالتزامن مع تسريب نسخة من اتفاق الرياض إلى وسائل الإعلام. لكن لم تصدر عنه أية تصريحات، ومن المتصور أن الخطوط الإستراتيجية لأي موقف سيصدر عن زعيم الحركة "عبدالملك الحوثي" أو خلال مناسبة مقبلة وأقربها مناسبة المولد النبوي الشريف في 9 نوفمبر المقبل الذي تستعد له الحركة الحوثية لتدشين فاعلية كبرى في العاصمة صنعاء.

إشكالية الفاعلين الآخرين
شاركت العديد من القوى الجنوبية في جولات حوار الرياض، وهي القوى التي تمثل الحراك الجنوبي، لكن آل الاعتراف في الأخير بالانتقالي الجنوبي كواجهة سياسية للجنوب، وهو ما قد يشكل خطوة استباقية في عديد من الأمور، ولاسيما الترتيبات الخاصة بالحل النهائي التي أشار إليها البند الثامن في الورقة الإطارية التي تنص على "مشاركة المجلس الانتقالي الجنوبي في وفد الحكومة لمشاورات الحل السياسي النهائي لإنهاء انقلاب الميليشيا الحوثية الإرهابية المدعومة من النظام الإيراني"، في حين كان للأمم المتحدة ترتيبات أخرى في هذه الجزئية تتعلق بمسار تشكيل منصة واحدة من القوى الجنوبية لهذا الغرض. وفي ضوء ذلك أُجري 11 لقاء تقريبًا في ثلاث عواصم عربية وأفريقية لكن انسحب الانتقالي من آخر جولتين وأعلن أنه يمكنه أن يفضل إدارة حوار داخلي، وبالتالي فإن هناك مصادرة على باقي المكونات ما سيفرض على الانتقالي الإسراع إلى احتواء تلك المكونات ضمن عملية مؤسسة تسمح لهم بالشراكة، أو ربما سيواجه معضلة استقرار في المستقبل.

في المحصلة الأخيرة، يمثل اتفاق الرياض خطوة على طريق التسوية في اليمن الذي يعاني من أزمات متعددة، ويُنهي فصلًا من فصول الصراع الجهوي، ويرأب صدعًا داخل شركاء التحالف كادت تعززه صراعات القوى المحلية في إطار حالة الاستقطاب التي تولدت في بيئة سائلة، وفي إطار خريطة طريق تسمح بتقاسم سلطة في إقليم عدن، لكنه لا يزال رهن اختبار التطبيق من جهة، ورد فعل الفاعلين الآخرين في المشهد من جهة أخرى، ذلك أن الشركاء الجنوبيين يمكن احتواؤهم، لكن تظل هناك معضلة الشمال، كذلك هناك تصور بأن المعضلة اليمنية الأساسية هي معضلة بناء الدولة، فالاتجاه الحالي للتسوية لا يزال يتعلق بعملية بناء نظام سياسي قائم على تسويات وصفقات حول طبيعة الحكم الذي سيكون عليه اليمن في المستقبل، وبالتالي لا يزال الحل رهن تكتيكات معالجة الأعراض الطارئة وليس المعضلة الأساسية.

"المركز المصري للدراسات"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى