وداعا.. أمير الكويت صباح الأحمد الجابر الصباح

> مات سمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح أمير دولة الكويت، أمير الإنسانية، وعميد الدبلوماسية العربية غير المنازع، ورجل المواقف العروبية والقومية تجاه البلدان والشعوب العربية في الجزيرة والخليج العربي وما بين الماء والماء من المنامة إلى طنجة ومن حلب إلى عدن.
هذا الرجل كان شاهدا على نهضة الكويت ما بعد الحرب العالمية الثانية مذ تدفق النفط من رمال الكويت الحارة. ليس شاهدا وكفى بل مساهما في صنع التحول الحضاري الكبير منذ خمسينيات القرن الماضي ما جعل البلد الخليجي الصغير منارة إشعاع ثقافي وفكري تشع من رأس الخليج العربي.

ومما له دلالته؛ ارتباط سمو الأمير الراحل بالفكرة القومية النقية بما هي تضامنية تجاه الأخوة في العروبة من لحظة تولد إمكانية أن تلعب الكويت دورها الحيوي داخل محيطها العربي الكبير وعلى المستوى الدولي والإنساني أيضا.
وكانت ولادة مجلة (العربي) عام 1958م بدعم ورعاية من الأمير الشاب رسالة الكويت المثلى لكل العرب. دخلت كل بيت عربي راسمة منهاجا عروبيا واضحا في تعريف القارئ العربي بوطنه الكبير، جامعة الكل دون تفريق وشاملة الجميع دون تمييز ليعرف المغاربي نبض أخيه في أقصى المشرق.

متزامنا ذلك مع صعود نجم الزعيم الخالد جمال عبدالناصر بما يحمله ذلك السطوع من قيم عروبية وقومية شكلت - دون شك - الوعي الجمعي للأمة العربية إلا ما يشذ عن ذلك.

وقد كان لي شرف أن أكتب رسالتي العلمية لنيل درجة الماجستير في الصحافة الدولية عن هذه المجلة وذلك في العام 1992م، وكانت الكويت وقتها بالكاد تتعافى من جراح الاحتلال العراقي المأساوي. وأتذكر أنني توجهت بالطلب عن إعداد مختارة من المجلة تتطلبها الرسالة إلى الأستاذ أحمد السقاف رفيق الأمير في إخراج هذا الإصدار الضخم وصاحب فكرتها ورعايتها للخروج إلى القارئ العربي بالكيفية التي عرفناها بها، فكان رده مؤلما عندما قال: إن أعداد المجلة نهبت أثناء الغزو.

وأذكر - أيضا - بالمناسبة ذاتها أن مقالتي الأولى في الغراء "الأيام" مبعوثة من موسكو في ذلك العام كانت بعنوان: (مجلة العربي).

تبوأ سمو الأمير الراحل المناصب الكبيرة ومنها وزارة الإعلام تزامنا مع استقلال الكويت في العام 1961م، الوزارة التي كان لها شأن كبير في تفنيد والرد على مزاعم الجنرال عبدالكريم قاسم حاكم العراق في ضم العراق الكبير بمساحته والضخم بثرواته الكويت الصغير إليه ما يذكرنا بالحكمة الإلهية الواردة في الآية القرانية الكريمة: "إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني بالخطاب".

وتفشل هذه المغامرة المجنونة بحنكة التعامل الكويتي معها والموقف العربي وفي المقدمة مصر عبدالناصر الرافض لمثل هذه الأعمال الطائشة التي تعود بالضرر على كل العرب دون استثناء.

وتبوأ الشيخ الراحل بعد ذلك وزارة الخارجية لتبدأ رحلته في الدبلوماسية وأروقتها ودهاليزها ليكون رجلها الحكيم جاعلا من الكويت واحة للتصالح والتسامح بين الغرماء والفرقاء عربا كانوا أو أجانب. وهي المواقف الثابتة في نهج الكويت الخارجي المتمثلة برأب الصدع وإصلاح ذات البين وعدم التدخل في السياسيات الداخلية للدول الأخرى، فأصبح الشيخ صباح عميد الدبلوماسية العربية وربما الدولية أيضا لطول بقائه في هذا المنصب واكتسابه الخبرات في القضايا الساخنة العربية والدولية.

وكان لبلادنا نصيب من حكمة هذا الشيخ العروبي المخضرم في إطفاء نار الحرب كلما شبت بين الإخوة الأعداء في الشمال والجنوب.
ففي ثلاثة مواقف على الأقل خلال عقد واحد فقط تدخلت الكويت لإيقاف حرب العام 1972م والعام 1979م بين الشمال والجنوب والأخيرة توجت بلقاء الكويت بين الرئيسين عبدالفتاح إسماعيل وعلي عبدالله صالح والخروج باتفاق الكويت بين البلدين.

كما كان لدبلوماسية الشيخ صباح محاولات لرأب الصدع وإيقاف الحرب الظالمة التي كانت تشنها الجبهة الشعبية لتحرير عمان بدعم سافر من جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية على سلطنة عمان، مع تأكيدات السلطان قابوس بن سعيد الذي تسنم الحكم في مطلع السبعينيات على نيته في إصلاحات سيقوم بها إذا ما تركت السلطنة وشأنها وعدم إشغالها بهذه الحرب العبثية.

ويسرد الأستاذ أحمد السقاف في كتابه (حكايات من الوطن العربي الكبير) هذه الواقعة عند زيارة الشيخ صباح لسلطنة عمان عام 1973م: "كان في استقبال الوفد الكويتي وزير خارجية عمان فهد البوسعيد، وقد فاجأنا بصراحة العمانيين المعهودة قائلا: إنكم تشيدون المدارس في بلاد المهرة المجاورة لحدودنا الغربية فيستخدمها الثوار للتدريب، فالتفت نحوي الشيخ صباح الأحمد فقلت للوزير إننا لم نبن جدارا واحدا في بلاد المهرة، فبهت وسكت وأدرك أن هذه التهمة لا أساس لها من الواقع، فالمساعدات الكويتية من مدارس ومستشفيات قد انحصرت في المحافظات الخمس ولم تصل إلى المحافظة السادسة (المهرة) لوعورة الطريق وصعوبة نقل مواد البناء؟

وقد اصطدمت مساعي الكويت بتعنت الجناح المتطرف في الحزب الحاكم في عدن مما دفع السلطان قابوس للاستعانة بشاه إيران، وهو ما كانت تخشاه ولا تحبذه الكويت.

وقد سببت تدخلات الكويت لإيقاف أي نزيف دم في جنوب الجزيرة العربية ودعمها للجنوب رغم الخط الماركسي للسياسة الحاكمة فيه تحفظ بعض القوى التقليدية في المنطقة التي كانت تشدد الحصار عليه، ولكن الكويت مضت في تقديم دعمها له انطلاقا من ثبات سياستها الخارجية القائمة على مبدأ عدم التدخل في شئون الغير الداخلية وأن ما تقدمه هو لمصلحة الشعب في الجنوب، حتى لا يزداد الجنوب عزلة تدفعه للارتماء في أحضان موسكو أكثر فأكثر.

وكان الشيخ صباح الأحمد قد استحدث (الهيئة العامة للجنوب والخليج العربي) بوزارة الخارجية عام 1965م، وضم خدمات الأستاذ أحمد السقاف إلى الخارجية ليكون العضو المنتدب للهيئة الجديدة وكان قانونها ينص على أن "تنهض الكويت بمسئوليتها القومية في إمارات الخليج العربي وفي جنوب الجزيرة العربية".

ففي إمارات الخليج ظلت الهيئة تقدم الدعم السخي حتى منّ الله على هذه البلاد بالنفط، بينما ظلت الهيئة تقدم العون الأخوي للشمال والجنوب حتى العام 1990م، فانتشرت المدارس والمستشفيات والكليات ودور العبادة في المدن والقرى، وكانت كلية الطب في صنعاء تتفوق على نظيرتها في الكويت وكذلك كلية الشرطة عدا ما قدمته الكويت من بعثات تعليمية في الشطرين للمدارس والكليات والبعثات الطبية للمستشفيات والمستوصفات التي بنتها الكويت.

ويقدم كل ذلك دون منة أو بهرجة إعلامية وتكتفي الهيئة بلوحة نحاسية تكاد لا ترى، يكتب عليها (هدية من شعب الكويت إلى الشعب اليمني الشقيق).
رحم الله صاحب السمو الأمير صباح الأحمد الجابر الصباح وأسكنه فسيح جناته، والتوفيق والنجاح للأمير الجديد سمو الشيخ نواف، وللشعب الكويتي العزة والقوة والرقي.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى