العودة.. قصة قصيرة

> علي كامل

> على بعد نصف متر من الرصيف وقفت كأنها طود شامخ، مسربلة بسواد ملبسها الذي يغطيها من أخمص قدمها إلى قمة رأسها، ما أقوله عنها هنا إنها واحدة من نساء هذا البلد الذي تسمع أنينه في كل شيء، في الحجار والجدران والأشجار والنساء والرجال والأطفال، حتى النفايات التي تزخر بها شوارع مدنه.
يبدو لي أنها في العقد الثالث، متناسقة القوام رشيقة فارعة طويلة ظهر طولها من خلال ارتفاعها علينا نحن الواقفين على الرصيف، كونها كانت واقفة على الأسفلت.

لا أدري لماذا تملكني الاهتمام بها؟!
هل هو نتيجة مشاعرها وأحاسيسها التي كانت تفتعل في كيانها تلك اللحظة وتبث لمن حولها؟!

أم أنه تفاعل حواس غير الحواس الخمس اشتغلت في عقلي فجأة؟!
كم كنت متعلقاً بعلم ما وراء الطبيعة، وكم حاولت تتبع حقائقه من خلال مباحث الآخرين.

كانت الساعة الخامسة والنصف صباحاً، والناس يتجمعون في الموقع ذلك على الرصيف بانتظار حافلات النقل الجماعي للذهاب إلى وجهات متعددة تعني بهم وبمصالحهم.
يظهر من خلال وقوفها على الأسفلت أنها على عجلة من أمرها لم تقطع الشارع حتى أقول إنها وقفت على الأسفلت بغرض قطع الشارع، فقد كانت السيارات المارة قليلة يفصل بين كل سيارة وأخرى فاصل زمني يستطيع من خلاله المرء أن يقطع الشارع ويعود.

على بعد مسافة تظهر ملامح حافلتين نقل متتابعات، بمجرد أن اقتربت الأولى وتبين لها العلامة الموسومة في مقدمتها أنها الحافلة المطلوبة.
بمجرد اقتراب الحافلة منها أشارت لها بيدها أن تتوقف توقف السائق على مسافة منها.

انطلقت متجهةً إلى باب الحافلة، وكأنها في سبق مع كم من الركاب الذي يفوق عددهم مقاعد الحافلة.
كنت أشاهد الحدث باهتمام مع سؤال نفسي: ما بالها هذه السيدة على غير العادة تقوم بهذه التصرفات؟

هل هي أول مرة تخرج للشارع وتركب حافلة؟!
بمجرد أن وصلت إلى باب الحافلة أدخلت يدها في حقيبتها المعلقة على كاهلها، وكأنها تبحث عن شيء.

أحسست أن حقيبتها فارغة إلا من مفتاح وورقة مغلفة.
لا أدري هل كان هذا الإحساس ناتجاً عن ارتباط فيزيائي بين جهازي حواس مشترك الذبذبات بيننا، أم أنه تكهن ورجم بالغيب؟

أحسست أن حقيبتها قد اتسعت وهي تجول بيدها فيها كهذا الكون الواسع.
أحسست أنها نسيت شيئاً مهماً، وأنها متجهةً نحو فرصة لو أهدرتها وعادت أدراجها لن تأتي مرة أخرى.

تلكأت في صعود الحافلة، لكنها قررت أن تصعد. صعدت درجات الباب الثلاث، واتجهت ناحية المقعد الذي خلف مقعد السائق.
حاول مساعد السائق أن يوجهها ناحية المقاعد المخصصة لنساء، لكنها لم تعره أي اهتمام.

أحد الركاب الجالسين بمحاذاة المدخل إلى الجهة الأمامية للحافلة يقول لها: يا أخت هذا القسم من الحافلة مخصص لرجال. لم تجبه بكلمة ولم تلتفت إليه. استقرت جالسة على المقعد. صعد الركاب كلاً أخذ مكانه. انطلقت الحافلة تتهادى بترنح، وكأنها تحمل الركاب وهمومهم ومآسيهم.
كانت الحافلة مخصصة لنقل الركاب المتجهين إلى قرناو!. لم تتوقف في الطريق على حسب العادة لإنزال وإركاب الناس، وإنما أغلق بابها إشعاراً لعدم توقفها.

على مدى ساعتين من زمن الرحلة كانت السيدة تتطلع بعينها يمين وشمال تتأمل جوانب الطريق، وكأنها أول مرة تشاهده. الركاب من خلال نظرات عيونهم لبعضهم كأنهم يعرفون بعضهم من قبل.
كانوا ينظرون إلي باستغراب وتعجب، وكأنهم يقولون ما الذي أصعدني إلى الحافلة؟

لم أعرهم اهتمام وأوليت اهتمامي بالسيدة التي شكلت لي لغزاً قررت أن أكشفه مهما كلفني الأمر.
على مشارف الجهة التي تقصدها الحافلة ظهرت لي بنايات قديمة عالية تظهر من على سور حجري كبير كأنها لبيوت عاد التي نقرأ عنها في التاريخ.

كلما اقتربت الحافلة ظهرت لنا معالم قديمة وتماثيل عملاقة على جانبي الطريق. اقتربنا من بوابة المدينة وفجأة انحرف السائق بها على جانب الطريق. التفت إلي السائق والتفتت كذلك السيدة. وجهت كلامها لي: سيدي أشكرك على مشاركتي الحواس، وأشكرك على مرافقتك لي، هذه آخر نقطة يمكنك الوصول إليها، وعليك أن تنزل من الحافلة. لم استوعب الموقف نزلت من الحافلة التي انطلقت مواصلة طريقها، وبمجرد أن دخلت بوابة المدينة اختفت المدينة، واختفت كل المعالم التي كانت على الطريق.

اكتشفت أنني في منطقة نائية تبعد عن مدينة صنعاء بمسافة ست سنوات حرب!. ما زلت أبحث عن وسيلة للعودة.
وعلى أمل أن تظهر الحافلة لتعيدني إلى زمني الذي سرقه مني صاروخ من إحدى الطائرات أدخلني في غيبوبة أعيشها بمفردي في صحراء الإجرام العربي.
كانت السيدة وركاب الحافلة من ضحايا ذلك الصاروخ، وكنت الناجي الوحيد الذي سأقص عليكم تفاصيلها عندما أفيق من غيبوبتي.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى