الحالة اليمنية.. الأطراف المعنية والمرجعيات الحاكمة

> د. صالح طاهر سعيد

> أولا: مفهوم "الحالة اليمنية" اشتقاق من مفهوم "اليمن"، وهو اسم توضح معناه النقوش الأثرية لممالك الحضارة القديمة، حيث تقسم جغرافية الجزيرة العربية إلى ثلاثة أقسام: شأمت (الشام) وتعني شمال الجزيرة العربية وما فيها من تكوينات بشرية (شعوب)، والحجاز ويعني الوسط، ويمنت (اليمن) وتعني جنوب الجزيرة العربية وما فيها من تكوينات بشرية (شعوب).

شأمت (الشام) وعاء جهوي يضم في جوفه شعوب شمال الجزيرة العربية: سوريا ولبنان وفلسطين والأردن وبعض أجزاء المملكة العربية السعودية وأجزاء من العراق.
أما يمنت (اليمن) فهو أيضاً وعاء جهوي يضم في جوفه شعوب جنوب الجزيرة العربية: بعض الأجزاء الجنوبية من المملكة العربية السعودية، والمملكة المتوكلية الهاشمية، سلطنات الجنوب العربي، وسلطنة عمان، الإمارات العربية المتحدة وحتى قطر تدخل ضمن شعوب جنوب الجزيرة العربية.

في العصر الحديث أقدم إمام المملكة المتوكلية الهاشمية على تغيير اسم مملكته ضمن سلسلة تغيير التسميات، فسمى مملكته بالمملكة المتوكلية اليمنية بدلا من "الهاشمية" ويدعي أن ما يقع في جغرافية جنوب الجزيرة العربية يدخل في حدود مملكته.

لم تكن خطوة إمام صنعاء مجرد تغيير اسم الدولة، فقد كانت تخفي وراءها أطماع حكام صنعاء في التوسع والاستحواذ على كامل الامتداد الجغرافي لجنوب الجزيرة العربية، خالقة بذلك مشكلة مزمنة عصفت بالأمن والاستقرار في هذه المنطقة من العالم، حين حاول حاكم صنعاء وضع ادعاءاته حيز التنفيذ أشعل حربين: حربا مع المملكة العربية السعودية لضم أراضي جنوب المملكة العربية السعودية إلى مملكته، وحربا مع سلطنات الجنوب العربي لضم أراضيها إلى المملكة المتوكلية "اليمنية". انتهت الحرب بهزيمة قوات الإمام وتوقيعه اتفاقيات ترسيم الحدود مع السعودية وسلطنات الجنوب العربي في عام 1934م.

انتهى الأمر مع المملكة العربية السعودية ولم ينتهِ مع الجنوب العربي؛ فقط تغيرت الأساليب. ففي عام 1962 سقطت مملكة الإمام وورثتها الجهورية العربية اليمنية، وبإبقاء مفهوم اليمنية بقيت معها أطماع الإمام فورثتها الجمهورية، حيث ظلت الأطماع التوسعية وهدف الاستيلاء على الجنوب قائمة، والتغيير الذي حدث هو في الأساليب والوسائل، فاستخدمت الأيديولوجيا على اختلافها القومية واليسارية والدينية غطاء لتبرير أطماع التوسع والغزو والاحتلال.

ولتكتمل حلقات التآمر على الجنوب أرسلت صنعاء جناحها المعارض مغلفين بأغطية الأيديولوجيات إلى الجنوب بمهمة التوغل والانصهار في المجتمع الجنوبي والوصول إلى الحكم في الجنوب، وتكريس وعي واحدية الذات الوطنية للجنوب والشمال، بحجة أن الإقرار بالشعبين والدولتين يعني مزيدا من التمزق في وحدة الأمة العربية، هذا الشعار رفع في زمن المد القومي، أما في زمن المد الاشتراكي فقد رفع شعار أن الواحدية اليمنية والعمل من أجل تحقيقها يعني توسيع رقعة النفوذ الاشتراكي. وحين سقطت الاشتراكية في عقر دارها سلمت الراية لحاملي الأيديولوجية الدينية للانقضاض على الجنوب وفرض السيطرة عليه وضمه إلى أراضي الجمهورية العربية اليمنية، وهذا ما حدث بالضبط في حرب الغزو والاحتلال التي خاضها الشمال ضد الجنوب في العام 1994م تحت شعار إسقاط آخر قلاع الشيوعية وامتناع المعارضة الشمالية بفرعيها الموجودين في الجنوب والشمال في الدفاع عن الجنوب، لأن كل شيء كان يسير وفق مخطط منسق بين صنعاء ومعارضيهم النازحين في الجنوب، المعارضة الشمالية تنظر وتخطط وسلطة صنعاء تنفذ.

الحقيقة المؤلمة تكمن في نجاح تمرير خديعة الأطماع الشمالية المغلفة بغلاف الأيديولوجيات وستار المد القومي العربي، حيث نجحت المعارضة الشمالية النازحة في عدن في الدفع بلعبة تغيير تسمية الهوية الوطنية لشعب الجنوب، فتدرج ذلك التغيير من سلطنات الجنوب العربي إلى اتحاد الجنوب العربي الذي قطع استكمال تشكيله ليشمل السلطنات كلها بفعل انتصار الثورة التحررية ونيل شعب الجنوب استقلاله الناجز والإعلان عن قيام دولته الوطنية المستقلة التي سميت بجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، وبعد ثلاث سنوات من إعلانها تم تغيير اسمها إلى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، فاتبع الجنوب بذلك نفس الخطوات التي سار عليها الشمال في تغيير اسم الهوية الوطنية لشعب الشمال الذي تدرج من حكم الدويلات المذهبية إلى المملكة المتوكلية الهاشمية إلى المملكة المتوكلية اليمنية إلى الجمهورية العربية اليمنية.

أربع نقلات في الشمال وأربع نقلات في الجنوب تنتهي كل نقلة باسم جديد للهوية، القاسم المشترك بين التسميات هو تثبيت مفهوم "اليمنية" في كل من الجنوب والشمال. كل هذه التغييرات في التسمية تمت في فترة لا تزيد عن ثلاثين سنة، انتهت النقلات الأربع بنقلة خامسة هي الإعلان عن صهر وتذويب اليمنين في يمن واحد بهوية واحدة وتسمية واحدة هي الجمهورية اليمنية وإلغاء الهوية الوطنية المستقلة لكل من الشعبين والدولتين.

إن الاتفاق على إلغاء الشعبين ودولتيهما، وإلغاء الهوية الوطنية المستقلة لكل منهما، وإلغاء حق السيادة لكل من الشعبين على أرضه، وإلغاء حقه في تقرير مصيره، كان إلغاء لدول معترف بها دوليا تتمتع بالعضوية الكاملة في الأمم المتحدة ومؤسسات الشرعية الدولية الأخرى. لقد كان عملا غير مشروع بكل المقاييس قامت أنظمة الحكم اللا مشروعة المغتصبة للسلطة وأحزاب الأيديولوجيات المختلفة، جرى فيه تجاهل كلي لأطراف الشرعية الثابتة المتمثلة بشعبي الدولتين وتجاوز للشرائع السماوية ومخالفة صريحة للأعراف والمواثيق والقوانين الدولية التي تنظم العلاقة بين الشعوب وتقوم عليها الدول والنظام الدولي.

اتفاقات رفضها الواقع وأشعلت فوضى الأزمات والصراعات والحروب، وجعلت المنطقة من أكثر المناطق اشتعالا، وعدم الاستقرار في العالم.
عجز الخبراء ورجال القانون عن توصيف ما حدث ويحدث في منطقة جنوب الجزيرة العربية (اليمن)، فأسموه "الحالة اليمنية"، ما يشير إلى حركة الشيء وتحوله من حال إلى حال على غرار وصف المادة وتحولها من حال إلى حال، وكذا حالة المريض وسيرها نحو التحسن أو الاستياء.

فالعبث الذي حدث ويحدث في الوضع اليمني ضرب التوازن الذي يحفظ استقرار المنطقة بإلغاء أطراف التوازن (الشعبين والدولتين)، وضرب التوازن الداخلي بين المكونات الداخلية لكل شعب، فاضطربت المنطقة وفقدت استقرارها، وأصبحت تعيش حالة اللا دولة، اللا قانون والفوضى بكل تفاصيلها.

إن مفهوم "الحالة اليمنية" الذي تضمنته معظم القرارات الدولية التي صدرت بشأن الوضع في اليمن منذ 1994 وما بعدها لم يكن من باب المصادفة، فقد وجد الكل أنفسهم أمام وضع لا تستطيع التحدث فيه عن الشمال بتسمياته المختلفة، ولا عن الجنوب بتسمياته المختلفة ولا حتى عن الجمهورية اليمنية التي أورد القرار الدولي 2140 في إحدى فقراته "إن الدولة الموحدة" لم يعد لها وجود بعد أن تم إلغاء الأعمدة التي تقوم عليها، وهما هنا الشعبان ودولتاهما، فبإلغائهما ألغت الشرعيات الثابتة في الوضع اليمني والإبقاء فقط على السياسة ومكوناتها الفاقدة للمشروعية بعد أن فقدت تأييد ودعم الشرعيات الثابتة.

ثانيا: الأطراف المعنية في التعامل مع الحالة اليمنية
يمكن تقسيم هذه الأطراف إلى قسمين تحكمهما علاقات التعاون والتكامل، علاقات تساعدهما في الوصول إلى وضع أسس الحل:
1 - القسم الأول: وهما هنا أطراف الشرعية الثابتة المتمثلة بالشعبين بوصفهما أطراف القضية في الحالة اليمنية، وهما الطرفان المعنيان باستعادة الوضع إلى مساره الصحيح وبمساعدة طرفي القسم الثاني.

2 - القسم الثاني: وهما هنا أطراف التشريع الدولي والمشروعية المتمثلة بالاتفاقات المنظمة لعلاقات الشعوب والدول وقواعد القانون الدولي والقرارات الدولية المتناغمة مع مضامين ونصوص القانون الدولي فيما يخص الهوية والسيادة وتقرير المصير لكلا الشعبين، ومؤسسات الشرعية الدولية والإقليمية التي تعتبر أدوات لتحقيق الأفعال المرتبطة بقواعد القانون الدولي والقرارات الدولية ذات الصلة بذلك، بوصفهم أطراف المساعدة والتدخل من أجل حل القضية.

القسمان تحكمهما علاقات تعاون وتكامل مع بعضهما لأنه يفترض فيهما أن يمتلكان إرادة إحقاق الحق وتحقيق العدالة وأن يعملا معا على استعادة الحقوق الوطنية الثابتة لكلا الشعبين (الهوية الوطنية المستقلة والسيادة على الأرض وتقرير المصير). مما يعني أن المساعدة الإقليمية والدولية ينبغي أن توجه لدعم الشرعيات الثابتة المتمثلة بالشعبين وإسنادهما لاستعادة الحقوق الكاملة لكل منهما، ومساعدة كل منهما لإنتاج تشريعات وسياسات جديدة تشرعن ثوابت الحق الوطني لكل شعب وبالتناغم مع هذه الثوابت ومع قواعد القانون الدولي يتم تقديم المساعدة للطرفين لإنتاج هياكل سلطاوية جديدة انتقالية تعبر عن الإرادة الحقة لكل شعب يناط بها إدارة المرحلة الانتقالية وتمثيل شعبها لدى الأطراف الإقليمية والدولية.

ثالثا: المرجعيات الحاكمة للأطراف الأربعة
ترتبط المرجعيات التي تحكم علاقات البشر أفرادا وشعوبا ودولا بثلاثة مفاهيم: الشرعية، التشريع، المشروعية.
الشرعية هي تعبير عن الحق الذي لا يحق لأي كان الوقوف ضده، أو تعديله، أو استبداله. وهي هنا شرعية الشعوب والدول، وشرعية ثوابت الحق الوطني لكل شعب: هوية وسيادة على الأرض وتقرير المصير، والتشريع هو شرعنة أو قوننة هذه الحقوق وجعلها ملزمة في تصرفات البشر وحاكمة لعلاقاتهم البينية أفرادا وجماعات ودولا.

أما المشروعية فتقاس بمدى مقدرتها على إحقاق الحق وتحقيق العدالة. وتدخل فيها الهياكل البنيوية التنفيذية وعلاقاتها الوظيفية، وتظم مجموع الأفعال والسلوك والتصرفات التي تقوم بها المؤسسات والتنظيمات في المستويات الوطنية والإقليمية والدولية. وممكن تكون مشروعة أو لا مشروعة بقدر انسجامها أو عدم انسجامها مع إرادات الشرعيات الثابتة (الشعوب) ومع ثوابت الحق الوطني لهذه الشعوب، وعدم مخالفتها للتشريع الدولي.

وجوهر المشكلة في الحالة اليمنية هي انفصال التشريع وأدوات المشروعية المتمثلة في الهياكل البنيوية الوظيفة التي قامت عليه، عن الشرعيات الثابتة، ففقدت المشروعية منذ قيامها، وكانت النتيجة الصراعات والأزمات والحروب، وعدم الاستقرار لعقود مضت وإلى اليوم.
وبناء عليه ينبغي تثبيت ثلاث حلقات تتشارك في المرجعية الحاكمية لحل مشكلات الحالة اليمنية:

1 - حلقة الحق وتجسدها الشرعيات الثابتة المتمثلة بشعبي الجنوب والشمال: فلكل منهما ثوابت حق وطنية محددة معروفة ومعترف بها، ومن ثم فكل شعب هو المرجع الحاكم الذي يملك الكلمة العليا في تقرير مصيره.

2 - حلقة القوة وتجسدها الأمة وأداتها (التحالف العربي) التي ينتمي لها الشعبان وهي حلقة تحتكم للتشريع الدولي وحدود استخداماتها هي حدود إحقاق الحق لطرفي القضية، وفرض العدالة، وإذا خرجت عن الحق والعدالة فذلك يعني خروجها عن التشريع الدولي والانزلاق نحو فقدان المشروعية، وإذا أرادت الأمة أن تظل مرجع حاكم للشعوب المنطوية في إطارها عليها أن تسخر أدوات القوة التي تمتلكها لخدمة الحق والعدالة لكل هذه الشعوب.

3 - حلقة العدالة ويعبر عنها التشريع الدولي وأدواته المتمثلة بمؤسسات الشرعية الدولية (الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي والمنظمات الدولية الأخرى التابعة للأمم المتحدة). تمثل مبادئ الهوية والسيادة وتقرير المصير للشعوب. أبرز مبادئ التشريع الدولي وهي المبادئ التي تحكم السلوك والعلاقات داخل النظام الدولي. فهي تمثل الحقوق الوطنية الثابتة لكل شعوب الأرض الحية بشعوبها وبقوة القانون الدولي ومؤسسات الشرعية الدولية.

يمارس القانون الدولي ومؤسسات الشرعية الدولية الدور المرجعي الحاسم في ضبط العلاقات بين الشعوب والأمم بما يضمن إحقاق الحق وتحقيق العدالة في العلاقات الدولية لارتباطها المباشر بإرساء أسس الاستقرار والسلم الدوليين، وعلى مبادئ الشرعيات الثابتة التي هي نفسها أصبحت تمثل مبادئ القانون الدولي تقاس سلامة أو عدم سلامة التشريعات الوطنية من حيث التناغم والانسجام مع هذه المبادئ من عدمه، وتقاس مشروعية أدواته المؤسسية ومشروعية السياسات والخطوات التي تتبناها.

وجوهر المشكلة في الحالة اليمنية تتمثل في خروج التشريعات الوطنية، وما تمخض عنها من سياسات وتكوينات سياسية عن التشريعات الثابتة، ومبادئ القانون الدولي، ومن ثم فقدت المشروعية، وينبغي استبعادها من مسارات البحث عن الحل بصورة كلية، فاستمرار وجودها في المشهد يمثل العائق المباشر الذي يمنع وقف الحرب وإرساء السلام والوصول إلى حلول تعيد الاعتبار للشرعيات الثابتة واستعادة حقوقها الوطنية الثابتة، واستعادة الدولتين المعنية باستعادة التوازن والاستقرار والسلام في منطقة جنوب الجزيرة العربية وبلدان محلس التعاون الخليجي، والقرن الأفريقي.

* أستاذ الفلسفة السياسية المساعد جامعة عدن

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى