قصة قصيرة.. عندما بكى الريحان

> د. علي الزبير

> - انظرْ هناك!. أنت من فعل ذلك!

كان في ارتفاع صوتها، وارتعاش يدها التي أشارت بها، وتغيُّر ملامح وجهها وهي تلفظ تلك الكلمات، ما يدل على شدَّة غضبها.. دلالة لن يعجز عن إدراكها طفل لم يكمل عامه الخامس، لا سيما حين يكتشف أنه سبب ذلك الغضب.. كان بدهيّاً أن التفتَ إلى حيث أشارت سبابة أمي، وما أن استقرّ بصري في المكان المشار إليه، وقبل أن التفت إلى أمي معترفاً بذنبي أو منكراً، وجدتُ أذني اليمنى بين سبابتها وإبهامها تفركها بغضب:

- كم مرَّة حذرتك، وقلت لك العب بعيداً عن هذا المكان!

د. علي الزبير
د. علي الزبير
لم أجد ما أقوله، لكني انكمشتُ متألماً، وأطلَّ الدمعُ من عينَيَّ يوشك أن يتحول إلى شلال، يصحبه نشيج مكتوم، ونظرات خائفة ومستعطفة ومعتذرة.. وكالعادة لم تستطع أمي احتمال رؤية دموعي، وتغضُّنِ وجهي متالماً، فسرعان ما حرَّرَتْ أذني من قبضة إصبعيها، لكن ذلك لا يعني زوال غضبها، فقد استدارت، ومضت إلى داخل المنزل وهي تهمهم بتهديدات لم أفهم إلا أقلَّها، لكني كنت على يقين أنها لن تنفذ منها شيئاً.. أما أنا فلبثتُ واقفاً أنظر خلف أمي حتى ابتلعها باب المنزل، وظللتُ عدة ثوانٍ انظر باتجاه الباب، متصوراً أنها ستخرج مرة أخرى، لكن لم أعد أتذكر إنْ كنت حينها خائفاً من أن تعود لتنفذ أحد تهديداتها، أم طامعاً في أنْ تعود فتحضنني ككل مرة.. لكني نزعت بصري من الباب حين أيقنت أنها لن تخرج، وشيئاً فشيئاً توقفتُ عن النشيج، وحين مرَّ في ذهني شريطُ ما حدث في الدقائق القليلة الماضية، تذكرت السبب في كل ذلك، فعدتُ أنظر إلى المكان الذي أشارت إليه أمي، بل وجدت قدمَيَّ تسوقاني إليه بشيء من الخجل والخوف.. إنه مزرعتها الصغيرة، أو (الحائط) كما هو متعارف على تسميتها في القرية، وهو مكان مستطيل الشكل لا تتجاوز مساحته بضعة أمتار مربعة، يُزرع فيه الريحان أو ما يسمى بـ (المشاقر)، وأنواع أخرى من الشجيرات ذات الروائح الطيبة المتنوعة.. تذكرت شدة اهتمامها بتلك الشجيرات، وحرصها على سقيها في أول النهار وآخره، واهتمامها بتعزيز السياج الشوكي -المصنوع من أغصان السدر اليابسة- الذي يحيط بها، خوفاً عليها من عبث الأطفال وأغنام القرية.. لقد رأيتها مراتٍ كثيرةً منحنيةً بين تلك الشجيرات تسند بعضها، أو تضمّ أغصان أخرى برباط تشقُّه من بعض الملابس القطنية القديمة، أو تقلع بعض الحشائش الصغيرة التي تنبت تحت الشجيرات، فترمي بها في جانب خالٍ من الحائط.. لم تكن في مثل ذلك المشهد تختلف عن أمٍّ حنون بين صغارها، تطعمهم، وتنظفهم، وتساعدهم على ارتداء ملابسهم.. رأيتها ذات مرة تعمد إلى اقتلاع الغرائس النابتة حديثاً، وتعيد غرسها في أماكن أخرى من الحائط، فعجبت كيف تقلعها وتعيد زراعتها من جديد، ولم ترم بها بعيداً كما رأيتها تفعل مع أنواع أخرى من الحشائش والنباتات الصغيرة.. وحين سألتها أوضحت لي، وهي تمنحني نظرة حانية وابتسامة مشرقة، أن النبتة ستكبر وتنتشر أغصانها سريعاً حين لا تجد نبتة أخرى تضايقها وتقاسمها غذاءها.. وحين وجدتْني صامتاً ولم أعلق على شرحها الموجز، قدَّرتْ أني لم أستوعب، فسألتني:

- قل لي أنت، هل ستكون سعيداً لو وجدتَ أن عدداً من أترابك يشاركونك النوم على فراشك الصغير؟

حركت رأسي عدة مرات أفقياً بما معناه: لا، فسألتني مرة أخرى:

- وهل ستكبر وينمو جسمك وعضلاتك لو وجدت أن هناك من يشاركك بصورة دائمة حصتك من الطعام؟

كررت النفي بحركة رأسي.. فاتسعت ابتسامتها، وقرصت خدي بحنان، وقالت:

كذلك النبتة حين نغرسها بعيداً نسبياً عن أخواتها تكون سعيدةً، وتحصل على ما يكفيها من الغذاء، فتكبر، وتتفرع سريعاً.

أنهت أمي توضيحها، وانحنت مرة أخرى تسكب الماء تحت النبتات المنقولة حديثاً من منبتها الأصلي.. قالت ما قالت ولم تدر أنها من تلك اللحظة جعلتني أؤمن أن تلك الشجيرات تفرح، وتحزن، وتغضب، وتتألم.. وربما تمادى بي الخيال فتصوَّرت أنها، حين تصل إلى سنٍّ معينة، يمكنها أن تتكلم، وتغنِّي، وينادي بعضها بعضاً.. وعلى هذه العقيدة صرت، بعد ذلك، كلما رأيت شجيرة قد ساورها الذبول أقرِّر أنها مريضة، تعاني من الحمَّى أو بعض الآلام في ساقها أو أغصانها، وإذا رأيت إحداها قد مالت مبتعدةً عن جارتها قررت أنها غاضبة منها، ولا تريد أن تنظر في وجهها.. نهرتني أمي ذات مرة حين رأتني بين شجيراتها، وطلبت مني الخروج من الحائط، ومنعتني من الدخول إلى هناك مرة أخرى، امتثلت لأمرها وخرجت، وظلت تكرر عبارات المنع والتحذير، ولم تمنحني مجالاً لأقول لها إني كنت أحاول تسلية تلك الريحانة التي كانت تقف في الزاوية البعيدة من الحائط، وليس بجوارها صديقات يسلينها ويخففن من شعورها بالوحدة.. ثم لا أدري كيف بدأ يتلاشى شيئاً فشيئاً هذا الاعتقاد بأن تلك الشجيرات لا تختلف عن البشر في كونها تسعد وتغضب وتتألم وتمرض.. ما أتذكره فقط هو أني في ذلك الصباح، حين تسللت إلى حائط أمي بحثاً عن كرتي القطنية بين الشجيرات، فكسرت إحداها لم ينتبني شعور بأنها تألمتْ، فقط نظرت إليها متأسفاً، وأخذت كرتي وخرجت.. بل لم يخطر في بالي في تلك اللحظة أن أمي يمكن أن تغضب ذلك الغضب كلَّه لرؤيتها الريحانة المكسورة.. رفعت يدي أتحسس أذني التي فركتها أصابع أمي، فعجبت أني لم أجد أثراً للألم.. لاحقاً، حين دخلت المدرسة، كثيراً ما وجدتُ أذني بين أصابع بعض المعلمين تفركها بشدة، فيلازمني الألم بسبب ذلك ساعات طويلة، وربما لازمني أثره عدة أيام، حينها أدرك أن تألُّمي من قرصة أمي لأذني لم يكن إلا تألماً نفسيّاً، وإلَّا لا وجه للمقارنة بين قرصتها الحانية وقرصات معلميَّ التي تشبه انطباق كُلَّابَي حديد على أذني.. وبمقدار ما كان يؤلمني انطباق ذينك الكلابين على أذني كانت تنتابني رغبة جامحة للارتماء في حضن أمي والاعتذار إليها من كوني -ذات يوم- بكيت متألماً من حنانها.. لكن روح أمي اشتاقت إلى التحليق مبكراً بعيداً عن الجسد، فذبلتْ رغباتي كما ذبلتْ شجيرات الريحان، التي ظلَّت تبكي أياماً طويلة، قبل أنْ تجفَّ أوراقها، وتحملها الرياح بعيداً خلف روح صديقتهن الراحلة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى